يوسف عبود جويعد
إن العملية الإبداعية في فن صناعة السرد الروائي، تكمن في مدى استيعاب هذه المفردة وتطبيقها على النص، ومن هنا نعرف أن الإبداع هو في قيام الروائي باقتناص فكرة جديدة من وحي أفكاره وعقله، وتوظيفها في معالجات فنية تنسجم والسياق الفني للنص السردي، بعد أن يكون قد أدخلها ضمن خياله الخصب لتكون جاهزة للتدوين، وفي الرواية القصيرة (ثقوب عارية) للروائي علي الحديثي، نكون مع مادة إبداعية خرجت من داخل وعي الروائي لتنسج على فضاء العملية السردية، فليس من الضرورة دائماً تعتمد الرواية على حكاية يستلها الروائي من واقع الحياة ليوظفها ضمن السياق المتبع للنص، في أن تكون واقعية اجتماعية أو واقعية نقدية أو واقعية رومانسية، أو واقعية جديدة، أو أي مذهب أدبي يختاره الروائي، إلا أن الأمر مختلف في هذا النص السردي القصير، كونها من السرديات التي تعتمد على صراعات فكرية وأفكار توعوية، وأفكار فلسفية تحاكي واقع الحياة، وتسهم في إشراك المتلقي للبحث مع بطل هذا النص، من أجل الخروج من بعض المعتقدات القديمة والبالية، وبعض التفسيرات الخاطئة التي اتخذت سلوكاً وطبيعة نحتاج إلى تغييرها، ومن أجل أن يفتح باب هذه السلوكيات والمعتقدات على مصراعيه ليدخل بكل حرية دون أن يعيق دربه عائق، حيث اختار فكرة جديدة من أجل استحضار حزمة الأفكار المنحرفة وتفكيكها، معتمداً على خياله الخصب لصياغة أحداث تكون الصراع القائم في هذا العمل، لنجد بطل هذا النص يقرر وفجأة أن يخلع جميع ملابسه ويتعرى داخل بيته وحده ليكتشف ماذا يحدث لو عاش الإنسان عارياً، وما أن فعل ذلك حتى أحس أن هناك الكثير من الثقوب تراقبه ترصده تمنعه تحد حركته تجعله يحس بالخجل، ثقوب الأبواب، ثقوب عيون الناس، ثقوب الأفكار البالية التي تزاحمه، لكن هذه الفكرة راقت له لأن الكثير من التداعيات بدأت تتدفق، والكثير من القيود بدأت تظهر وتزاحمه من أجل العدول عن رأيه، إلا أن شعوره بالحرية المطلقة وتخلصه من هذه الملابس كان أشبه بقضبان يحبس كل أفكاره.
وهكذا فإنه قرر أن يشرك أصدقاءه وزملاءه بالعمل من أجل أن يعمم هذه الفكرة، وكانت غايته أن لا يتعرى من أجل أن يكون هذا سلوكاً شاذاً، لكنه كان يريد أن يتعرى من تلك القيود التي حدت من تطور الحياة، وبقينا نؤمن بها تحت ظلام الجهل، وما أن شرع بإقناع زملائه الموظفين معه، وبدأ يفك أزرار قميصه، حتى دخلت موظفة فشاهدته وهو يفك أزرار القميص:
(بين وقت وآخر كنت أختلس النظر إلى تلك الموظفة، لأجدها تنظر إليّ أيضاً، برغم أنني قررت أن أغلق الثقوب، إلا أن هناك ثقوباً لا يمكن لأيدينا أن تصل إليها، فهي تسكن في قعر سنوات مضت، ولا يمكن رتقها إلا بإزالة تلك السنوات من دفتر الزمن، وهذا هو المستحيل بعينه، وهناك ثقوب لا يمكن رؤيتها حتى بأدق التلسكوبات، وعسى أن يأتي يوم يخترعون فيه تلسكوب يمكننا رؤيتها به، ولكن ماذا نفعل مع ثقوب لم يعد لها وجود إلا أنها ما زالت تلمع، فتُوهمنا بوجودها ككثير من النجوم التي تنفجر، وتنمحي، ولكن بريقها الذي وصلنا متأخراً أوهمنا بأنها لم تزل موجودة.)ص17
ومن خلال هذا السياق الفني واللغة المتدفقة الحرة المرنة التي تنسجم ومسيرة الحركة السردية، نكتشف أن عملية التعري هذه، لا تعني التعري من الملابس قطعة قطعة والخروج عراة، أكثر من كونها مدخلاً مناسباً لمعالجة تلك الأفكار الهدامة التي دمرت الحياة وشلت العقل، وأوقفت الكثير من التطور، وهي أشبه بملابس نرتديها ولا يمكن خلعها لأي سبب كان لكونها حالة سلوكية سارت مع الحياة واقتنع بها الناس، هي تعني الجهل، الضلالة، شل العقل، والتفكير بعقول الآخرين، كون الروائي يذهب بشكل فسلفي واعٍ إلى أن الله خلق الإنسان عارياً، وارتكابه الخطيئة، وتناوله من ثمر شجرة الخلود، أظهر عوراتهما وجعلهما ظاهرتين يخصفان من أوراق الشجر لاخفائها، أي أن الخطيئة هي السبب الرئيس لخروج آدم وحواء من الجنة وارتدائهما ملابس لستر عوراتهما، ولولا هذه الخطيئة لبقيا عاريين.
وهكذا ومن خلال الصراع القائم بين التحرر والثقوب التي تطارد بطل هذا النص، والتي ترمز إلى الكثير من الحالات المرفوضة:
(من خلال رحلتي الثقبية، أكتشف أن هناك ثلاثة ثقوب، ثقوب تخيفنا فهي تراقبنا، وثقوب تمنعنا كما في ثقوب السيكارة والجسد.. أما الثقوب السود فقد جمعت الاثنين معاً، أشعر أن وراءها عيناً تراقبنا.. وفي الوقت نفسه هي ثقوب في جسد الكون، وجدت لمتعة الكون نفسه.. لو تعاملنا مع الكون على أنه جسد حيٌ عظيم.. ونحن نعيش في هذا الجسد) ص 28
وتستمر دورة الأحداث وهي تحاكي المضي في أفكار بطل النص، الذي غاص بعمق فكرة التعري، لنكتشف علاقته بزميلته صباح وموتها بسبب حريق بيتها، ثم علاقته مع علياء، التي تعاطفت مع فكرته، وحققت له الرغبة أن تكون معه عارية، لتشاركه رحلة الصراع وسد تلك الثقوب العارية.
ومن الغرائبية ننتقل إلى الفنتازيا، حيث نعيش عالم آخر وهو احتدام الأحداث وبلوغها حالة التأزم والذروة، من خلال بطل هذا النص وهو يشاهد العمارات في شارع حيفا تتحول إلى قمصان وبنطلونات وأحذية طائرة في السماء وهو محلق مع حبيبته علياء:
(كل من يحاول لجم جسدي سأركله بقدمي، وأول شيء سأركله هو عقلي الذي ما تدخل في شيء إلا أفسده وهو يحاول أن ينط في كل شيء، وماذا جنت البشرية من استخدام عقلها لآلاف السنين؟ حروب، دمار، عُقد، خوف،مجاعات.. وظيفة العقل هي غلق الثقوب التي فيها جمالنا وحياتنا، لا يخدعنكم المسميات الوهمية التي تلبّسها العقل ليغريكم بها، مجتمع، دين، فكر، اتيكيت، كلها تصبّ في مستنقع واحد، هو تكبيل الجسد، قتل الجسد، موت الجسد، كانت هذه الكلمات وقوداُ لأستمر بركضي )ص 52
وهكذا يتكشف لنا أبعاد الصراع وقدرة الروائي على تعرية تلك الثقوب ومحاربتها طالباً من الجميع أن يقفوا معه لمواصلة هذا الصراع الواعي، والذي اكتشفنا من خلاله بأنه عندما أراد أن يكون عارياً لا يقصد هذا التعري المشين، وإنما التعري من الأفكار الهدامة للخلاص منها من أجل البحث عن الحرية الواعية.
(هل تظن أن فكرة خلع الملابس اقتحمتني من العدم، المشكلة كثيراً ما أجلس مع نفسي انبش بذاكرتي لعلي أجد بذرتها، ولكن عقولنا بحور عميقة، أعمق مما نتصور، فليس من السهل أن تصل لكل ما تريد فيه ولكن، باختصار، هناك إنسان نائم يمكنك أن توقظه بصوتك فقط، وآخر يحتاج إلى نكزة، وآخر لا يمكن إيقاظه إلا بأن تركله وتضربه وتصرخ به، أنا لم أرد أخلع الملابس عن الجسد ولكني كنت أريد أن أخلع الأفكار المحيطة عنه منكم، لم أرد أعري الجسد) ص 769
وبالرغم من كثافة الأحداث واختزالها وقيام الروائي باختيار لغة سردية نابعة من خزين فكري وفلسفي يضع أمامنا بعض الأمور التي يجب أن ننتبه لها، إلا أن هذا النص الروائي قابل للإضافات واتساع رقعة الأحداث أكثر، بإدخال انتقالات كبيرة تتلاءم وتنسجم مع الأحداث ليكون نصاً سردياً مبهجاً.