في عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بلغت الاغنية العراقية مرحلة متقدمة من التكامل على صعيد عناصرها الثلاثة ( الكلمة – اللحن – الصوت) ، ولم يأت هذا النضج عن فراغ او مصادفة ، بل كانت هناك عملية متدرجة ومتواصلة لسلسلة من التطورات التي شهدتها عقود الستينات مثلاً والخمسينات والاربعينات ، ويلاحظ في هذا الصدد ان كل مرحلة غنائية جديدة لاتقفز فوق التي قبلها قفزاً عشوائياً ، بل تبدو وكأنها مولودة شرعية لها ، وتتطلع الى آفاق ارحب من دون ان تقطع جذورها بالأم او الأصل ..
كان عقد التسعينات انذاراً مبكراً لتراجع فن الغناء ، وهو التراجع ذاته الذي ساد عموم الحركة الفنية في العراق ، وفي مقدمتها ( المسرح) ، ولابد إن المحن الثلاث المتعاقبة ( الحرب العراقية الإيرانية / غزو الكويت / الحصار) قد تركت تبعاتها الثقيلة ونتائجها المؤذية على حياة العراق النفسية والمعاشية والاقتصادية والاجتماعية ، زيادة على مشكلة النظام السياسي ذي الطبيعة الشمولية ، ومن هنا كانت التسعينات البداية المعلنة لتراجع الفن الغنائي …
سلطة ماقبل (2003) لم تكن ( رحيمة ) في تعاملها مع الغناء لعاملين رئيسين أولهما : المحاولات التي قادتها المؤسسات المعنية سواء بمنطق القوة ام بمنطق الاغواء والاغراء والمال ، وثانيهما : الدور الكبير والمؤثر لتلفزيون الشباب الذي يقوده نجل رئيس النظام ، فقد كان وراء شيوع ظاهرة ماعرف باسم الاغنية الشبابية ، وهذا المصطلح هو كلمة حق يراد بها باطل ، لأن إدارة التلفزيون كانت تصدر في كل شهرٍ عدداً من المطربين يفوق عدد أيام الشهر – وهذا بحد ذاته يؤشر حجم الكارثة – وطبيعة الكارثة تتمثل على رواية الكثيرين بالهدف التجاري كما يقال من ان التلفزيون كان يتقاضى مبالغ ضخمة عن كل ظهور جديد لاحد الأصوات الغنائية ، وكان هذا الظهور أقرب مايكون الى الإعلان ، بل هو فعلاً اعلان مدفوع الثمن يمكن تصور مردوده شهرياً او سنوياً ، واذا استبعدنا هذا الهدف ، فأن الدافع الأكثر قرباً من تركيبة النظام يومها ، يفيد بأن هذا التفشي للأغاني السوقية بصورة عامة ، كان يُخبئ (بُعداً) سياسياً يراد به (اشغال الشباب) بتلك الأجواء – التي (تبدو) ذات مظهر فني – بعيداً عن هموم البلاد ..بعيداً عن السياسية وغياب الحرية ، وبعيداً عن المطالبة بأبسط حقوق الحياة الإنسانية .. الا يبدو من الغريب حقاً أنَّ تلك المرحلة أنجبت الف (مطرب) لم يخضع أحد منهم الى اختبار لقدراته الصوتية ؟ والا يبدو اكثر غرابة – وهو من دواعي السعادة – ان 98% من تلك الأصوات لم تصمد في وجه الغناء العراقي الأصيل .. ولم تصمد امام الحقيقة …
حسن العاني