جمال جصاني
منذ ان انتشلت الأقدار العابرة للمحيطات ما تبقى من سكان هذا الوطن القديم من براثن أحد أبشع الانظمة الشمولية في تاريخ المنطقة الحديث، حتى وجدوا انفسهم أمام سيل من السيناريوهات التي لا تقل فتكاً وهمجية عما عاشوه مع حقبة (جمهورية الخوف)، حيث اندلقت، من رحم ما يفترض انه مرحلة انتقالية، مشاريع وبيارغ وقوى لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بمناخات وتحديات هذا العصر.
هذا الطفح تفاقم واشتد بشكل واسع ومفجع بعد أن حقق فرسان العملية السياسية ومناوئيها هدفهم المشترك في نيل (السيادة) بعد خروج القوات الاجنبية وفق اتفاقية (صوفا)، ليعرف العالم كله نوع السيادة التي اجترحها لنا مجاهدو ومناضلو ما بعد الفتح الديمقراطي المبين.
اليوم، وبعد تبخر ابطال وفرسان دولة المحاصصة الطائفية والعرقية، أمام غزوة داعش الاخيرة في مدينة الموصل وضواحيها وغير القليل من مدن وقصبات غرب وشمال العراق، وتمددها السريع الى ما يعرف بالمناطق المتنازع عليها، والتي لم تتمكن العنجهية الشوفينية من الحفاظ عليها أكثر من اسابيع معدودات، هذه التطورات التراجيدية صبت حمم حرائقها على أكثر الشرائح بعداً عن صراعاتها وغاياتها الشريرة، حيث تعرضت الاقوام والمجموعات المسالمة من سكان البلاد الأصليين الى افدح الاضرار واقسى الفواتير، وبيد حثالات واوباش القوافل المنحدرة لتضاريس اقدم واجمل الاوطان من كل فج جاف وضحل خلف راية العقائد القاتلة.
إن مشهد تساقط المدن والقصبات بيد عصابات داعش المدججة بالاسلحة والمعدات التي تركتها الفصائل والافواج والالوية التابعة للجيش العراقي من دون مواجهة، قد اطاح بما تبقى من المساحيق الغليظة للبناء الهش والترقيعي لأهم وأخطر مؤسسات ما يفترض أنه الدولة الديمقراطية الفتية. كما ان التطورات المريرة هذه لم تكتف بهتك سر خواء ونفاق المجتمع الدولي ومؤسساته الاممية وحسب بل فضحت وبشكل مخجل الدرك الذي انحدرت اليه مجتمعاتنا وحشودها وجماهيرها التي لا يسيل لعاب غرائزها المتدنية الا تبعاً لاشارات اجهزة دول الجوار للتحكم عن بعد، حيث يمكن لحادث تافه وعابر ان يركلها لتحتشد بالميادين والشوارع، ويحفز حناجرها وقبضاتها للتعبير عن أشد مشاعر الاستنكار والغضب، فيما تمر أبشع الجرائم ضد الجنس البشري وأقذر الانتهاكات وأكثرها همجية، كما هو حاصل حالياً في مدن العراق المستباحة في الموصل وتلعفر وسنجار وتكريت وديالى وناحية بشير وعشرات المناطق الاخرى، من دون أي رد فعل يذكر..؟!
إن هذا الانحطاط الشامل في القيم والمعنويات، والانكفاء الى حيث المغارات الضيقة والعقائد المنتهية الصلاحية والمتنافرة وروح العصر، لم يأت من فراغ، وهذا ما تدركه القوى والبرامج المشوهة التي تقف خلف الغزوات الهمجية الاخيرة، حيث تستثمر في حقول الذل والخنوع هذه التي خلفتها عقود من الهيمنة المطلقة للعصر الزيتوني.
وكما تطرقنا، والكثير من المتابعين للشأن العراقي، فإن هذه الجرأة على سكان هذا الوطن القديم من مختلف الرطانات والازياء انما تستمد قوتها وصلافتها من ذلك المسخ المبرمج الذي تعرض اليه المجتمع بعد سلسلة التجارب التي عاشها تحت سطوة اوباش وحثالة البشر وتقاليدهم المنحطة والتي تعيد داعش بممارساتها وسلوكها الروح لرممها النتنة.
العراق، وبالرغم من الهزائم الحضارية الهائلة التي تعرض لها، يبقى عصياً على قوافل الجراد البشري، والذي تمثل تجربة داعش محطته الأكثر همجية وعدوانية لسكانه الاصليين وروحه المترعة بالتنوع والتعددية والابداع، هذه الحقيقة التي تعرف اليها كل من عاش وسطهم بعقل متوازن ووجدان سليم. يصف بن ابي الحديد سكان العراق بقوله: (مما ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم وبين العرب الذين عاصروا رسول الله (ص)، ان هؤلاء من العراق وساكني الكوفة، وطينة العراق ما زالت تنبت أرباب الأهواء وأصحاب النحل العجيبة والمذاهب البديعة. وأهل هذا الاقليم أهل بصر وتدقيق ونظر، وبحث عن الآراء والعقائد، وشبه معترضة في المذاهب، وقد كان منهم في أيام الأكاسرة مثل؛ ماني وديصان ومزدك وغيرهم..).
هذه الروح المتنافرة وعقائد الجفاف واليباب هي ما تستهدفه النوبة المسعورة من الغزوات التي لا تطيق الآخر المختلف والتي تمثل داعش آخر صيغها المستحدثة.
إن الجرائم المرتكبة ضد المدنيين وسكان البلاد الاصليين، لم يكن بمقدورها ان تصل لهذه المستويات من قتل وتهجير واغتصاب وانتهاكات مشينة لولا اطمئنان هؤلاء القتلة لفعل فايروس اللاأبالية الذي نخر همة وقدرة العراقيين في الدفاع عن حقوقهم المهدورة. كما ان أكثر من عشر سنوات من تعبئة الحشود وتوجيهها صوب المسارب العقيمة، أجهضت الامكانات والطاقات المادية والمعنوية، وشرعت الابواب أمام مثل هذه الغزوات الهمجية.
إن رهان التغيير ومواجهة مثل هذه السيناريوهات المعدة في مطابخ البعض من دول الجوار، يتطلب استنهاض ذلك الرأسمال الرمزي والتعددية والتنوع الهائل الذي تكتنزه «طينة العراق»، وبالتالي كبح هذه الموجات المسعورة من قوافل الغرباء واعداء المصالح العليا للعراقيين. لقد برهنت تجربة أكثر من عقد على «التغيير» حقيقة ان وجود العراق الحديث مرتبط بمهمة التصدي للتحول صوب الديمقراطية الحقيقية لا الممسوخة التي تختزلها الكتل المتنفذة الحالية بحجم أوهامها المشوهة. لقد كلفتنا المواقف والسياسات المثقلة بارث الثارات الصدئة، اثماناً باهضة ليس آخرها عمليات التطهير العرقي والطائفي والنزوح الجماعي لعشرات الالوف من الاسر المسالمة والتي وجدت نفسها من دون أي دفاع بمواجهة أكثر المخلوقات همجية وانحطاطاً، وما سقوط مدينة سنجار ذات الاغلبية اليزيدية الا مثال صارخ على التدهور الذي انحدرت اليه الحالة السياسية والامنية في البلد.
مع مثل هذه المعطيات المريرة، حيث لا يلوح في نفق الزعامات والكتل المتنفذة أي بصيص لأمل في حلول واقعية وشجاعة للكارثة المحدقة، نجد انفسنا بمواجهة تحديات ومخاطر يصعب استشراف حلول جدية لها من دون التدخل الاممي الذي يلجم شراهة المافيات المولعة باشعال الحروب الاهلية.
ومن الاهمية بمكان الاشارة الى الخلل الذي ميز السياسة الخارجية، وعكس الطبيعة الهشة للنظام السياسي الجديد، حيث فرطت بسمعة العراق الخارجية وشجعت مختلف الاجندات الخارجية للعبث بشؤونه الداخلية، ورسم خيارات وتوجهات كتله وزعاماته المتنفذة. هذا التشرذم الذي شجع أحد اعتى التنظيمات الاجرامية والارهابية كي تحول ذروة هذياناتها الآيديولوجية (الخلافة) الى واقع في ثاني أكبر المدن العراقية (الموصل)، ولتشرع أبواب أحد أقدم الاوطان واجملها أمام سيناريوهات دمار لا تسبر غوره أدق المكرسكوبات الانثروبولوجية.