(قراءة في كتاب الظاهراتية والرمز لـ(جاسم حميد جودة)

نحو أفق التأويل
علي سرمد

إذا كان اتجاه الفلسفة المثالية عماد بنائها الذات واتجاه الفلسفة التجريبية عماد بنائها الموضوع، فإن اتجاه الفلسفة الظاهراتية تبحث في النقطة التي يتصالح فيها الاتجاهان وكانت هذه النقطة هي الارتداد إلى الشعور لإدراك الأشياء ذاتها انطلاقا من مفهوم الظاهرة التي تحتفظ بالوجود الواقعي وإدراك الذات لها، وبذلك تكون قد جمعت بين الاتجاهين، انطلاقا من مفهوم القصدية. فما هي القصدية، وكيف سيتشكل وفقها أفقا للتأويل وفك الرموز؟

وصف الكاتب والكتاب:
الكتاب للدكتور جاسم حميد جودة، أستاذ السرد والنقد الحديث في جامعة بابل، وقد صدر الكتاب عن منشورات الدار المنهجية، ط1، 2016، ويحوي 160 صفحة، مقسم إلى قسمين، خصص القسم الأول للجانب النظري، بينما جاء القسم الثاني تطبيقيا على رواية نزيف الحجر لإبراهيم الكوني. ينطلق الكتاب من اتجاه الفلسفة الظاهراتية في خطوطها العامة إلى تأسيس أفق لتأويل النصوص الأدبية مستثمرا بذلك الامكانية التي فتحتها الظاهراتية حول مفهوم القصدية، وقد عالجها وفق بناء محكم. ابتداءً من هوسرل انتهاء بآيزر الذي حدد ثلاثة مستويات لصياغة الوعي-نذكرها لاحقا-، وهذه المستويات ستكون مدخل لتحليل الرواية واستنطاق الرمز، ففي المستوى الأول يقوم الكاتب بترتيب الرموز وفي المستوى الثاني كشف الفجوات، وفي المستوى الثالث فك الرموز وملء الفجوات.

مقدمة الكتاب
إذا كانت البنيوية تنظر إلى الظاهرة حصرًا وتكتفي بكشف القانون فقط، الأمر الذي ينعكس على تهميش الذات في التواصل وانتاج المعنى، فإن التأويلية تقدِّم تصوراً مخالفا لما طرحته البنيوية، ينهض هذا التصور على التفاعل بين الذات والقارئ والنص فيمنح فرصة للدخول في حوار، وبذلك تتحقق الأرضية الخصبة لإنتاج المعنى. وفي هذه المساحة يرى الكاتب أنّ المقولة الأدبية(قارئ/نص)هي الوجه الأدبي للمقولة الفلسفية(الإنسان/العالم) والمزج بينهما تحقق في الخط الفلسفي الألماني تحديدا على يد هوسرل.
تتبع الكاتب في القسم الأول مفهوم القصدية والمسارات التي انتهجتها من خلال أبرز من مثلها(هوسرل، هايدغر، أنغاردن، آيزر)ومن خلال هذا التتبع حاول الكاتب أن يرسم أفقه التأويلي. وهنا لا بد من البحث حول مفهوم القصدية.

-قصدية الذات(هوسرل):
يعدُّ هوسرل أول من أسَّس مصطلح القصدية بمفهومها الخاص، وذلك حينما وجد أنَّ إثبات العالم على أساس التمييز والوضوح هو من مخلفات العلم، وحاول أنْ يرد العالم والذات إلى منطقة واحدة توحدهما وهي منطقة الشعور، فهي النقطة التي تحتفظ بماهية الموضوع المادي والوعي وأطلق على اللحظة التي تجتمع بينهما مصطلح القصدية، فهي اللحظة التي يتحرك فيها الوعي إلى ماهية الموضوع ويندمج فيها، فيصبح الموضوع والذات شيئا واحداً مخالفاً لطبيعة الاثنين(الكتاب:21) يخلص الكاتب أنَّ إقرار هوسرل بوجود ذات متعالية وراء القصد قد خرج من الموضوعية إلى الذاتية. وهذا ما أدركه انغاردن-الذي أخذه بدوره من هايدغر- من أنها ألغت قصدية الموضوع لحساب قصدية الذات، فيحاول تأسيس المعرفة على أساس التوازن بين الذات والموضوع.

-قصدية الوجود(هايدغر):
ينطلق هايدغر من القصدية ذاتها إلى أنّه يتّجه بها نحو الوجود دون الموجود، وبهذا يرى هايدغر أنَّ الفلسفة الحديثة ركزت حول الانسان بوصفه ذاتا ولم تضع لباقي الموجودات أية قيمة إلّا من زاوية علاقتها بالإنسان.(38)
وفي هذه المساحة يزيح هيدغر مركزية الذات في تشكيل العالم، فالعالم موجود هناك ولأجل ذاته، وليس موجوداً لأجل الذات، وهنا يظل هايدغر وفياً للفلسفة الظاهراتية التي تحاول تجاوز الثنائية بين الذات والعالم، ووضعها وحدة واحدة التي هي الوجود.(39) وهو بذلك يكون قد سيّر مفهوم القصدية في مسار مغاير لما عند هوسرل ، فالقصدية عنده متضمنه في فكرة الوجود الانساني الملقى في العالم.(40) أي تجاوز قصدية الوعي إلى قصدية الوجود. أي الانتقال من فكرة الانسان القاصد إلى الوجود القاصد، ففي هذه المرحلة لم يعد الوعي ولا الموجود الانساني هو الذي يقصد، بل أصبح الوجود ذاته هو الذي يقصدنا عندما يتكشَّف لنا في الموجودات(44). إلا أنّ إلحاح هايدغر على قصدية الوجود أخلّ بطرفي القصدية، إذ ألغى التفاعل الحقيقي بين الذات والعالم.

-القصد المتبادل(انغاردن):
من هنا حاول انغاردن الاحتفاظ بالصورة الأصلية للقصدية، وذلك باقتراح مفهوم القصد المتبادل أي إعادة الركن الآخر للقصدية، فللموضوع وجود قاصد كامن فيه ولا يجب أن يُلغى لحساب الذات، وبهذا يميّز بين نوعين لقصدية الموضوع: 1-العمل الفني موضوع قصدي خالص، ويكون نتاجا قصديا للنشاط الفني، ويتم فهم أسلوب وجود بنيته وتعينها لدى المتلقي على هذا الأساس، أي أنه يستمد أسلوب وجوده من نشاط قصدي سابق ولا يحتمل تأسيسه القصدي بذاته كما عند هايدغر.2-الذات التي تقصد وتتحاور مع قصدية هذا الموضوع.(50،51) وهنا يرى انغاردن أنَّ الفجوات تتخلل البنى ولا يمكن تشكيل البنية التصويرية ما لم يتم ملء هذه الفراغات وتعيينها مؤسساً لدخول المتلقي في حوار مع النص وهو ما يحقق القصد الجمالي.(52)
إنَّ العمل الفني عنده موضوع قصدي فالنص مقصود من جهة المرسل للنص، وبهذا أنَّ مواقع اللاتحديد مقصودة من جانب مرسل العمل وهو ما يحدد عملية التعيين، والقارئ يعمل على تعيين الموضوع الجمالي الذي قصده الباث في بنية العمل الأدبي. وبهذا يخلص الكاتب أنَّ انغاردن هنا وضع القارئ موضع سلبي في عملية إنتاج المعنى، فالمتلقي وإنْ كان يتواصل مع النص مسجلاً حضوره عبر رصد الفجوات وملئها إلّا أنَّه يستجيب لما يخططه النص، وبهذا يصبح دور القارئ دور التابع المخلص للمرسل، أي على الرغم من مشاركة القارئ في التعيين إلا أنها لا تشير إلى قصدين متبادلين وإنما قصد واحد يملي شروط تعيينه على القارئ، وهذا يعني أننا وفق هذا التصور ما زلنا في إطار المسار الأحادي لعملية القراءة ولا نصل إلى درجة التواصل الحقيقي لأنَّ القارئ هنا مفسِّر لما يريده النص. ذلك ما انتقده آيزر إذ يرى أنَّ عملية القراءة عند انغاردن ذات اتجاه واحد تنطلق من النص إلى القارئ وليست قراءة ذات اتجاهين.(54).

الإجراء الأدبي(آيزر):
ينطلق آيزر من المفهوم ذاته لتأويل النصوص الأدبية من دون اعتبار للمبدع أو التاريخ في انتاج المعنى، وهذه العملية تجعل القراءة بتماس مباشر مع النص، وبهذا يلح آيزر في الحفاظ على قاعدة التوازن بين المتلقي والنص وإبقاء التكافؤ على طول عملية القراءة. وعلى هذا فإنّه يقرّ بقصدية الذات وقصدية الموضوع، ومن تفاعل القصدين ينشأ الموضوع الجمالي عنده، إذ إنّ العمل الأدبي عنده يقول على قطبين 1- القطب الفني ويشير إلى النص الذي أبدعه المؤلف2-القطب الجمالي ويشير إلى الإدراك الذي أنجزه القارئ. وينتج عن هذه القطبية الثنائية أنَّ العمل الأدبي لا يمكن أن يتطابق مع النص تماماً، أو مع إدراك النص وإنما يشغل في الحقيقة منزلة وسطا بين القطبين. وبهذا نلحظ أن الصورة التفاعلية بين النص والمتلقي هي الوجه الفلسفي لثنائي(ذات/عالم)( 56، 57). وفي هذه المساحة ندرك أنَّ الصورة التفاعلية التي قدمها آيزر بين النص والمتلقي تتطابق مع ما قدمه هوسرل، وهنا يؤكد آيزر على قيمة البنى النصية النصية في ضبط انفعال المتلقي وتوجيهه، إذ إنَّ انتخاب بنى نصية معينة من النص الأدبي يتشكل من وعي قرائي للنص يمكن المتلقي من رصد هذه البنى، إذ يحمل استلام تأويلي من الذات إلى الموضوع للوهلة الأولى، ثم يتبع ذلك لحظة ثانية غريبة تتضمن اتخاذ موقف يؤطر وجود الموضوع ويجعله جماليا، وهكذا فإنّ السلوك الجمالي سلوك ابداعي، إذ إنّ المراقب في التأويل الجمالي ينتج موضوعا تخيليا.(57، 58).
إن الانتخاب النصي عملية استقرائية ومستوى إدراكي مهم جدا في تعيين المعنى الأدبي لأن عملية الانتقاء في عملية القراءة بحسب هذه النظرية لا تنظر إلى الوجود الموضوعي للبنى النصية وإنما تعدها بنى إنتاجية تتحرك على وفق مقصدية النص، ومن جهة أخرى تفتح مساحة لدخول المتلقي في إنتاج القصد الكلي، وبلغة الفينومينولوجيا يمارس عليها التعليق.
من هنا ينتقل الكاتب إلى القسم الثاني مطبقا أفقه التأويلي على الرواية، مع الحفاظ على المدركات الأولية التي انبنت عليها البنية التصورية للفلسفة الظاهراتية، محاولا تجاوز المظهر السلبي للقارئ الذي اقترحه انغاردن، لتحويل واقعية الفهم من أن تكون واقعية ذهنية، وهنا يتشكل المسار التأويلي للقراءة وفك الرموز على أنها إبداعٌ واكتشاف. ذلك على وفق ثلاثة مستويات من التفاعل بين القارئ والنص.
1. ترتيب المعطيات الحسية، وبناء المخطط ويتم ذلك من خلال انتقاء البنى النصية بوساطة القارئ الضمني.
2. تنظيم البنية الادراكية وكشف الفجوات داخل المعطيات الحسية: ويتم ذلك من خلال توظيف المنظورات النصية الأربعة(الراوي، الشخصية، الحبكة، القارئ).
3. التأويل المتسق وبناء المعنى الكلي: ويتم ذلك من خلال فك الترميز وملء الفجوات.
-القارئ الضمني: بما أنَّ القارئ الضمني آلية من آليات فهم الوعي، أي أنه يبحث في النقطة التي يتشكل فيها الوعي، فإنّ ترتيب المعطيات الحسية تقع على عاتقه ومن خلاله نحصل على بناء المخطط، وكشف الفجوات والرموز وصولا إلى المعنى الكلي. وبهذا يرتب الكاتب المعطيات الحسية بوساطة القارئ الضمني على النحو الآتي:1-اقتراب العوالم2-ابرام العقد3 الأب-الحيوان4- اسوف-الودان5- نقض العهد 6-صدام العوالم.
((لا يروق للتيوس أن تتناطح أمام وجه إلا عندما يشرع في الصلاة، مع حلول العشية وتزحزح قرص الشمس الملتهب عن العرش في قلب السماء مودعا، مهددا بالعودة في الغد لإتمام مهمته في احراق ما لم يستطع احراقه اليوم، يحشو(اسوف) ذراعيه في رمل الوادي، ويبدأ بالتيمم لإنجاز صلاة العصر، سمع هدير المحرك البعيد، فقرر ان يسرع ويعطي الله حقه قبل ان يصل النصارى الذين تعوّد في السنوات الأخيرة أن يستقبلهم في الوادي ليتفرجوا على الرسوم المحفورة))(68، 69)
يرصد الكاتب في النص السابق مجموعة من الأحداث الواقعية التي تبدو مألوفة للشخصية(اسوف)بحسب تقديم الراوي(تناطح التيوس، شروق الشمس، غروب الشمس، تأدية الصلاة، زيارة السواح) هذه الأفعال ذات قيمة استهلاكية في النص لا تؤسس توقعا لحدوث متغير بحسب رؤية الشخصية إلا أن القادمين هم من السواح، ويكتشف أسوف أنه على خطأ حين تعرف على هوية السائحين، إذ ليس السواح مسيحيين، ولا علاقة لهما بالآثار.
-بناء المعنى الكلي(الفجوة): يرصد الكاتب مجموعة من المناظير التي نتمكن من خلالها كشف الفجوات داخل النصوص، وهي: منظور الأب، منظور اسوف، منظور قابيل، منظور الغزال.
((مات الاب مطعونا بالسكين عندما حبلت به امه، وماتت الأم متأثرة بلدغة أفعى بعد ولادته بأسبوع، ورثت تربيته خالته، وسقته دم الغزال في احدى الرحلات، بالحمادة عملا بنصيحة احد الفقهاء، قال إنها التعويذة الوحيدة التي تستطيع ان تغسله وتحمي بقية أهلة وأقاربه من اللعنة التي تلاحقه منذ ان كان نطفة في بطن أمه))(131)
يرصد الكاتب من خلال هذا النص الفجوة انطلاقا من منظور الراوي، فهو يسعى إلى تسجيل أسباب قدرية في تأسيس هذا المنظور، فهو ملعون وهو في بطن أمه ويجاور هذه اللعنة في النص ما يمحوها (ان يشرب دم الغزال) وهنا تنقلب دلالة شرب الدم من أن تكون ثيمة دالة على الاعتداء والجريمة إلى وسيلة للتطهير، هذا التصادم بين المعلومتين يولد فراغا شاغرا. والنص بهذا المعنى يحاول مجاوزة البعد الواقعي لهذه الثيمة إلى البعد القصدي.
-التأويل المتسق وفك الرموز:هذا هو المستوى الثالث، يوظف فيه الكاتب القارئ الضمني لرصد البنى النصية التي تخطط لفك الرمز وكشف المقصدية القائمة على التفاعل بين(النص، المتلقي). إذ ينتقل في هذا المستوى بعد فك مجموعة من الرموز(الغزال، الأسطورة، الودان) إلى الاتساق التأويلي لملء الفجوات الشاغرة التي سكتت عنها المعطيات النصية في زمن وقوعها في النص، أو تلك التي لم يستطع النص أن يملأها عبر معطياته والتي تعتمد على القارئ كليا، وصولا إلى النبوءة(نزيف الحجر).

((الكاهن العملاق يخفي وجهه بذلك القناع ويلامس بيده اليمنى الودان))(142)
يلحظ الكاتب في النص السابق صورة استعارية، تعيد تأسيس قصة الخلق وتعزوها إلى المصادفة وفي هذه اللحظة(اصطدام اسوف بالأيقونة وادراكه لعالمه)يقع أمام الصورة المحفورة على الايقونة(الكاهن والودان)، والودان بحسب انفتاح الرمز هو الخطيئة ووجود الخطيئة والانسان تشير إلى تلازم الخطيئة والانسان، ووضع اليد اليمنى على الودان، يعني قوة الخطيئة التي تتلازم مع اليد اليمنى.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة