في الشهر الماضي قررت وزارة النقل تخفيض أسعار تذاكر السفر على الخطوط الجوية العراقية، للأسرة الصحفية بنسبة 50%. الى هنا ينتهي خبر مكرمة الوزارة المخصصة لـ “الأسرة الصحفية”. بعيداً عن طبيعة مثل هذه القرارات والتي لا تنسجم وروح المساواة في الحقوق المدونة في الدستور، تجد شريحة واسعة من الصحفيين والكتاب العراقيين نفسها خارح أسوار هذه “الأسرة الصحفية” التي شملتها المكرمة (الجديدة- القديمة) لوزارة النقل، عندما حددت هذه الأسرة بالمنتسبين لنقابة الصحفيين العراقيين حصراً، وهذا ما أكده رئيسها السيد مؤيد اللامي عندما قال: (بإمكان الصحفيين الراغبين بالسفر مراجعة النقابة لإكمال الإجراءات المتعلقة بشمولهم بالتخفيض، مستصحبين معهم هوية النقابة المجددة). مثل هذه القرارات والتي تبدو في ظاهرها متعاطفة مع العاملين في مهنة المتاعب والمخاطر (الصحافة) إلا أنها في واقع الأمر تصب في صالح ترسيخ قيم ومفاهيم تعود في أساسها الى ما كان سائداً زمن النظام المباد، إذ تعمل مثل هذه القرارات على ترسيخ نفوذ وهيمنة تنظيم مهني معين على بقية التنظيمات أو الاجتهادات والمواقف. بالرغم من أهمية التنظيمات المهنية ودورها في الدفاع عن حقوق المنتسبين لها، لكن الانتماء لها من قبل العاملين في المهنة ليس إجبارياً بل هم أمر طوعي، وفي الأنظمة الديمقراطية لا تفرض السلطة نقابة بعينها ولا يحق لها التدخل بشؤون العمل النقابي، بل على العكس وظيفتها تتطلب دعم وحماية الحرية والتعددية فيه، لا كما يحصل معنا في الصحافة وغيرها من المهن والنشاطات.
مثل هذه القرارات تمتد بجذورها الى قيم وتقاليد لا تمت بصلة لما يفترض أننا بصدد التأسيس له بعد خلاصنا من النظام المباد، والذي ترك بيننا فضلات قيمية وسلوكية لا تمحى بيسر، وقد تناولت قبل أكثر من عقد قرار سابق لنفس الوزارة المصرة على مواصلة إرث المكرمات العتيد، وقد كتبت بشدة بالضد من ذلك الاحتفاء الذي لاقته ولا سيما افتتاحية الصحيفة الرسمية والتي كانت تحت عنوان معيب “شكراً سيادة الوزير” وكانت حول تخفيض تذاكر السفر..! الصحفيون لا يحتاجون مثل هذه المكرمات أو المنح البائسة وغير ذلك من المناخات والشروط المهينة لمكانتهم وهيبتهم بوصفهم أعضاء في السلطة التي تتابع وتراقب بقية السلطات وتدافع بقوة وإيثار عن حقوق ومصالح أفراد المجتمع من دون تمييز.
لن نبتعد عن الموضوعية عندما نصف الصحافة بالملح الذي يطهر الفساد، فإن فسدت الصحافة وتمكن خصومها والمتسللين اليها، من حرفها عن وظائفها الحيوية والقيم والمثل العليا التي وجدت من أجلها؛ فسنجد أنفسنا عاجزون عن المواجهة مع ما يحيط بنا من تحديات تتعاظم يوماً بعد آخر. إن الصحافة التي تترقب مكرمات وصدقات الآخرين، لا يمكنها لا النهوض بمسؤولياتها ولا حفظ مكانتها وهيبتها بين بقية المؤسسات والسلطات والمهن. لذلك نحتاج الى إصلاح هذا الحال المزري لصاحبة الجلالة، عبر اعتماد أسس وتقاليد قادرة على طرد وكنس ما خلفته حقبة الخنوع والتعفن والركود، من فضلات وسلوكيات معيبة ما زالت تتواصل بإصرار يثير الدهشة. مثل هذه القرارات تؤكد ما أشرنا اليه مراراً وتكراراً؛ عن حجم الاغتراب الذي تعيشه مؤسساتنا ونقاباتنا ووزاراتنا وما يعيشه البلد من مرحلة للعدالة الانتقالية والتحول صوب الديمقراطية والتعددية والحداثة..
جمال جصاني
الصحفي عند وزارة النقل..!
التعليقات مغلقة