العراقيون في زمن البالات

بغداد – علي صابر محمد:

كل ظاهرة اجتماعية هي انعكاس لواقع اقتصادي وصورة لتطور وسائل الانتاج في المجتمع، فسلوكيات الرفاه والازدهار تأتي من خلال النمو الاقتصادي والنهضة الصناعية والزراعية والمعرفية للبلد، وكذلك تخلف وسائل الانتاج مجلبة للبطالة والتخلف والفقر والمرض، وهذه آفات تفتك ببني آدم وتنهش آدميته وترميه حطاما في متاهات وسلوكيات وممارسات متدنية، ولا يقتصر الامر على السلوكيات فحسب، بل تشمل ثقافة ووعي المجتمع، وحتى مفردات السلع والحاجات اليومية التي يتعامل الناس بها سواء بارتدائهم للملابس الأنيقة والغالية، أو العادية بأسعارها المعقولة واحيانا الرثة، وحتى تناولهم للأطعمة الفاخرة، أو البسيطة والزهيدة الثمن.

في العهد الملكي، وعندما كان الفقر هو السائد في العراق بمدينته وريفه، والتخلف يخيم على عقول الغالبية، في مجتمع فلاحي تحكمه قوانين مجحفة تخضع أرادته للاقطاع ولا يقوى على توفير قوته اليومي، كان من البديهي ان يرتاد عامة الناس الاسواق التي تقدم السلع الرخيصة والبالية، وأسمال الغرب المتخم بالرفاه، وهم الساكنون في بيوت من صفيح او طين لا تتعدى عن كونها جحوراً كجدث لا يرى النور بينها وبين الشمس طلاق.

أما الاغنياء فكانت لديهم أسواقهم المزدهرة بالسلع الجديدة وفي رفوف مزججة ومضاءة، فكان من البديهي بروز أناس في ميدان التجارة توغلوا في تقصي اسرار تجارة الملابس المستعملة، والتي كانت تسمى آنذاك ( اللنكة ) وزوارهم وزبائنهم الدائميون من الكسبة وفقراء القوم من العمال والفلاحين والكادحين، ليستروا بها أجسادهم من قيظ الشمس ولهيبه وبرد الشتاء وصليله.

هذه التجارة مرت بمراحل المد والجزر وحسب الوضع الاقتصادي للعراق، وفي عهود تباينت علاقة حكامها بالشعب بين قريب او بعيد عنه والمعروف والمثبت كقانون ان الرخاء الاقتصادي للمجتمع يضعف نفوذ هذه التجارة، بينما تدهوره يفتح امامها فرص التمدد والانتعاش والازدهار.

على مدى عقود لم يعرف العراقيون من السلع المستعملة سوى الملابس على اساس أن قبائلهم بخير لا يعوزها الا الخام والطعام، ومائدة صيف العراق الطويل كانت أيام زمان صديقة للفقراء وانتهت هذه الصحبة والصداقة مع عهد الانفتاح والحرية، أما الخام فالحاجة له قائمة ما دام للبشر ظل، ولكن هذا العوز أنتشر كالطاعون وتسلل الى كل بيت في أيام الحصار فقد دخلت الى البلاد اضافة الى الملابس، السيارات المستعملة وتفنن تجارها بطرق جلبها وتوفير ادواتها الاحتياطية، وتقبلها المجتمع بوصفها من ضروريات مواصلة العمل وتوفير لقمة العيش، ولكن الغريب في موضوعنا، ان البضائع المستعملة لم تعد تقتصر على الملابس اليوم فمع ارتفاع واردات العراق من النفط، أزدادت الحاجة الى استيرادات السلع المستعملة وبات عليها اقبال مذهل وكأننا نسير بعكس قوانين الطبيعة والاقتصاد وأمتدت الاستيرادات للسلع المستعملة لتشمل المدافيء النفطية والدراجات وأجهزة التكييف والتبريد، حتى وصلت الى أدوات المطبخ من أوانٍ وصحون. 

الطريف في الموضوع أن عشرات الباعة المتجولين مع عرباتهم محملون بسكاكين المطبخ المستعملة يجوبون شوارع بغداد لعرض بضاعتهم والشيء الجديد ان تسمية هذه السلع قد تطور الى أسم (البالة) بدلا من (اللنكة ) ولكي لا نظلم المفردة فليس المقصود بها البالية، وانما لورودها على شكل حزمة كبيرة مغلفة يطلق عليها البالة، ان هذه الظاهرة ان دلت على شيء فانما تدل على ان الثروة في البلاد برغم ضخامتها الا انها توزع بطريقة غير عادلة، فارتفاع مستوى الموارد تذهب للأغنياء من ذوي المناصب واصحاب المشاريع ورؤوس الاموال والمفسدين في جهاز الدولة، والغالبية تعيش حالة العوز والفقر المدقع والهوة بين مستويات الدخل تتسع يوماً بعد يوم.

ويبدوأن القائمين على موسوعة غينس لهم حضور دائم في بلد فيه الارقام القياسية كثيرة، فعدد المستعملين للبالة يعد مرتفعاً وقياسياً وفي تزايد مستمر والتخوف ان تتوجه الانظار الى استيراد السلع المستعملة من افغانستان والباكستان والصومال، بعد أن أغرقت الاسواق بالسلع المستعملة الاوروبية والخليجية.

بعد غزو النظام المباد للكويت، وتحويل محتويات دوائر ومخازن واسواق السلع الكويتية الى العراق، سواء بطريقة النهب والسلب التي مارسها البعض من اركان النظام المباد والسراق، او بطريقة الشراء الاصولي والقانوني من التجار الكويتيين، دخلت الى السوق العراقية أنواع من السلع لم يتعرف عليها المواطن حينذاك، لأنها ذات تكنولوجيا متطورة لم تصل الينا في حينها، وهي مؤشر على تطور العلاقة بين المواطن الكويتي وحداثة المقتنيات بعكس الوعي العراقي، الذي بدأ مرحلة الانحسار والجفاف بفعل الانقطاع عن العالم، بسبب الحرب العدمية التي زجت بها البلاد، وبعد التغيير فان الاسواق انفتحت على جميع الانواع من السلع، الا ان القدرة الشرائية لمعظم الناس تميل الى اقتناء السلع الرخيصة ضمن حالة التوازن والتقتير في انفاق الاسرة، وحسب مستوى دخلها، ولما كانت العوامل المعوقة للتنمية أكبر من الرغبة بالتقدم الى الامام، فان حصاد المجتمع ما زال في خانة البؤس والفاقة وما زال العراق يدرج ضمن الدول المتخلفة كالعيس في الصحراء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول، واذا كان الزمن ينسب لأحداثه فيمكن ان نطلق على زمننا هذا زمن البالات بامتياز فهل يمكن تغيير ذلك؟.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة