اللعبة التدوينية في مجموعة «قباب غرناطة» لحسين نهابة

علي لفته سعيد

تبدو اللعبة التدوينية في المجموعة الشعرية (قباب غرناطة) للشاعر حسين نهابة وكأنها تعمل على متوالية تمازج بين الشعر والسرد، وبين التاريخ والمكان، والزمن وحصاده، فهو يدخلك من اللحظة الأولى من العنوان الذي يشي أنه سيكون عبارةً عن عمليات تلاقح ما بين التاريخ والحاضر، والمكان وسرّه في العلاقة ما بين العرب وبينه، وما تشكّله غرناطة من أثرٍ تهيمن عليه الرؤية الباذخة للماضي وما يمكن يطلق عليه الآن (أسبانيا) بكل تفرّعاتها الغرناطية والأندلسية وما يجاورها من فعل تاريخي، يشعر المتلقّي بأنه تاريخ مهم وفيه فخر كبير.. لذا فإن العلاقة بين العنوان الرئيس والوحيد في المجموعة، هو ما يشكّل المكان كعتبة دالة على مدلول ودوال ودلالات خاصة متجمّعة في حوضها، وبين العناوين الفرعية التي اختار لها الشاعر أن تكون تواريخ معلومة، وكأنها زيارة الى المكان ليكتب يومياته بشكل شعري.. لذا فإن الشعر والسرد تداخلا لينتجا هذا الديوان الذي أعلنه في صفحة المعلومات على أنه (ديوان شعري) وعلى صفحة الاسم على أنه (شعر) وفي الحالتين فإن الشعر هو الذي يتيح المجال لتقشير المفعوليْن التاريخي والزمني، عبر المكان الواحد (غرناطة) وما ينتج من علاقة قارة بين القباب كأحد أسرار العلاقة (الإسلامية) وبين التواجد في تلك المنطقة التي تعني ايضا أسمها كما يدل على انه يعني(الرمانة) لكثرة الرمان المزروع فيها.. لكنها ترتبط في الذاكرة العربية الإسلامية ليس في حكم العصور الإسلامية لها، بل في سقوطها الذي أصبحت الأقلام تدوّن عليه الكثير من الكتب والروايات والشعر والتحليلات، حتى صار القرن الخامس عشر هو من أكثر الأحداث الهامة التي ميّزت التاريخ الإسباني، لأنه وضع نهاية لحكم المسلمين الذي دام أكثر من ثمانية قرون، لتتحول إسبانيا الى قوّة عظمى اكتشفت أمريكا بعد ذلك.
إن ما يميّز عملية التدوين والبنية الكتابية في هذه المجموعة أو الديوان هو عناوين النصوص التي تبدأ بتاريخ 8/6/2017 لتنتهي في 31/12/2019 بما يشكّل عاما ونصف العام، وكأنها مدّة وجود الشاعر في إسبانيا كدراسة أو سياحة، ومنها تنطلق الروح الشعرية في كشف المسرّات والأحزان.. الرهبة والتأمل.. الفخر والتماهي.. الحاضر في المكان الواقعي/ العراق.. والحاضر في المكان المزار/ غرناطة – إسبانبا.. ولهذا يجد نفسه في علاقة غريبة..(كقطة ضائعة/ أتسكع في شوارع غريبة/ لا تحمل اسمه / ربما هي مثلي ) ص32.. أو يراها بعين السائح المسحور في تلك العلاقة الماضوية بين المكانيين او الحاضرين والماضيين.(من أنت/ ساحرة شرقية/ قدمت من خيام السلاطين) ص4
إن التاريخ الذي تركه كعنوان هو الذي يحدّد هذه الماهية ما بين الشعر والداخل.. أي إنه ينطلق من داخله لرؤية العالم الجديد الغريب في الاكتشاف الملتصق في الزمن، والماضي والوعي التاريخي الذي يعشقه العربي المسلم في مفخرة التاريخ.. ولهذا نجده يعبر عن داخله برؤية شعرية جديدة ربما فيها من الأسف الكثير من تلك العلافة بالتاريخ ايضا.. لذا فهو ينقل لنا هواجسه ورؤيته وخوفه ورفضه معا بطريقة من يحكي مع نفسه مرّة، ومع الآخر الذي يكتب له (أيتها النقية مثل دعوات المرضى/ حول أضرحة الأولياء/ دلّيني على كبير القضاة/ لأقدم له ألف اعتذار/ عن الزمن السفاح الذي/ لم يرحمني يوما) ص7
ولهذا فإنه يدخل مباشرة في تلك المسافة الفاصلة بين الأسف والتأمّل والانبهار.. وهو ما جعله لا يتكتب مقدّمة لمجموعته الشعرية، ولا يضع حتى إهداء وكأنه يريد القول أن الماضي وإن لاحقنا لكنه يؤثّر فينا بطرق مختلفة، لذا هو يعاكسها بشكل آخر، ليخالف ما اعتاد عليه الأخرون في التباهي أو المناصرة لما هو معروف في السياق العام.. ليس من إجل إبراز اليأس أو الاحتقان مما كان أو الهروب من الواقع المؤلم، بل لأنه لم يمسك شيئا مما كان ليؤثّر على بناء ما هو حاصل في الزمن الراهن/ الواقع.. ( من قال أن الأبطال يهزمون واقفين/ ولا يركعون كالاصنام؟/ أنا لست بطلا خرافيا مثل» هوميروس»/ ولا صلبا مثل حصان» طروادة» أنا نبتة هشة يطالها الانكسار) ص 48
إن البنية الكتابة تعتمد على فاعلية الأفعال المرتبطة بالفاعل الذي يمثّله الشاعر نفسه، مثلما يمثّله المقصود في الجملة الفعلية تارة والأسمية والفعلية تارة أخرى، كطريقة ليس لاكتشاف طرق جديدة في الروي الشعري، بل كونه يريد ممارسة لعبة التدوين عبر الانطلاق من الداخل الى الخارج، ومن الأنا الى الآخر الذي لديه أنا يريدها قريبة منه.. لذا فهو يبدو في النصوص الذاتية والموغلة بالداخل والحديث المباشر وكأنه يتحدّث عن أشياء أخرى ليست (غرناطية) لكنها ترتبط بتلك العلاقة المؤرّخة عبر العنوان التاريخي والمتن، لذا فان (الروزنامة) تبقى هي الدالة على محتوى الفاعلية القصدية، وهي عملية إمعان في التراتبية الذاتية حتى لو كان يناقش الحرب، فإن هذه المناقشة جاءت كونه على أرض غير أرضه، يكتشف العظمة ويتباهى بها ويعود منكسرا الى واقعه ويكشف مدى الانكسار. (صعب أن تبقى قوياً/ لرجل هش/ أكلته قطيع الأحلام،/ صعب أن تبقى قوياً/ وعشرات العيون تختبء فيه خجلى) ص58
ولهذا فإن مفعول المقارنة يبقى يسحبه حيث الغصّة دوما.. والشعور بالغربة والإتيان بما هو قابل للمارسة فعل الضياع مرغما.. بما أتاه من قوّة الفاعليات الواقعية التي عاشها ويعيشها والتي سيعود إليها، كمن يعود الى حوضه الأول الذي أنتج له الحرب والخوف والموت والخسارات العالقة في رأس التاريخ.. وكـأنه يحتج على ما أنتج له الماضي/ التاريخ/ القباب.. ليكون الحاضر أكثر لوعه.. لهذا فهو يخاطب المكان بطريقة من لا يتذوّق الأشياء التي وجدها باعتبارها غريبة لغربة واقعه.( عصي هذا الحساء/ في هذه الغربة المقيتة/ تحت رذاذ مدريد وفم الحوت/ غريبة نكهته/ يلقمني صبرا لست أهلا له) ص104
إن مجموعة (قباب غرناطة) هي محاولة لشرح المعاناة الذاتية وتقشير العلاقة بين العظمة في التاريخ والخيبات والخسارات في الحاضر، ولهذا فإن المعرفة المرتبطة بالشاعر من كونه مترجما من الإسبانية حيث ترجم ستة عشر كتابًا، فإن الأمر يكاد ينطوي على بعد مقارناتي من خلال البوح الداخلي.. ولهذا فإنه يختتم تاريخ مدوّنه أو زمن المقارنة في تلك (الروزنامة) بأن الحال سيبقى كما هو عليه.. لا شيء غير التفاخر من جهة والألم من جهة أخرى (وكأن الله حباني بك/ ارتدي آخر ما تبقى/ من عباءات الخيبة لعام يرحل/ وآخر يأتي معصوب العينين/ وأمشي دون أمل) ص 106

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة