حين تركْنا الهور

علي صلاح بلداوي*

لم تعد توقظنا المشاحيفُ من غفوةٍ على بساطٍ من الخوص مُظلَّلٍ بسِحر القصب، ولم تعُد للغناء الصباحي خلف القطيع المُساق إلى بِركةٍ لذَّتُه للسّامع البعيد.
أيُّ فجرٍ يشهدهُ السهران طالعًا من الأجَمات الكثيفة، والهور ساكنٌ، لا الريح يميل على هبوبها البردي، ولا الماء يوقظ النوارس بموجهِ من غفوةٍ على الجرف.
لا تجِئ بموتٍ جديدٍ يا صباح.
قالتِ الناعية، وبين يديها نافقة كلّ الدواب، تقرأ المراثي وتذكّرها بالصباحات التي كانت تجيء بالماءِ طافحًا، ويتبدّد على المجرّات.
إلى أيِّ مسرىً تأخذُنا في تفرّعاتك يا هور؟ أيقودُكَ الحنين إلى بللٍ في شقوق الطين تتلمَّسُ فيه حُلم البارحة، أم الغضب إلى جفافٍ ينهشُ مراعيك، ولكنَّك عاجزٌ ومغمورٌ بحسرتك؟ ما الذي يُعينُكَ على بلواك يا هور!

أعبركَ صارخًا لأنَّ ألسنةً مقطوعةً لا تناديك، وأمضي ملوِّحًا لأنَّ أياديَ مُكبَّلةً بالرذيلة لا يعنيها التلويح لك.
ماشيًا، أشهدُ وجودكَ قبلَ فناءٍ ألمحه في تفاصيلكَ وصمتك، ولا مناديًا يحملنا إلى أطرافكَ الأُخرى، لأن المُنادي لا صوت له بلا ماء.
كلّنا أنتَ يا هور، ينهشنا جفافٌ يجيءُ قاسيًا من الجهات، وتتكالب على رغبتنا في الحياة رغبات الطغاة مدسوسةً في فعائل القتلة.
أشهدُ هجرةَ الماء والماء مُهاجرٌ من شراييني، وأشهدُ موتًا يدور ضاريًا في الآفاق، وكلانا مُسجَّلان في دفتره.
عطشٌ يركضُ مذعوراً، يمحو من صفحات الوجود مسقط رأس الوجود

جنّازون نمشي حفاةً، وفي القعر نطبع آثارنا مشيتنا الحسيرة، والمُشيِّعون حشدٌ من المنسيّين والمنسيّات، يتَّكئون على القصب سلاحهم الوحيد، ويمشون ناعين مُفارِقًا يفعلها لأوَّلِ مرَّةٍ: الماء.

المصابُ مصاب أهله.
قال الذي انحنى على نبتةٍ كاد يدهسها في نحيبه، وعاتبَها: لا خيرَ في أرضٍ منسيَّةٍ تطلعين فيها، وأيّ عطشٍ سيعتريكِ بعد قليل.
عطشٌ يمسحُ على شفاهٍ مُشرَّحةٍ بالآه، عطشٌ يركضُ مذعورًا خلفَ الماشية، عطشٌ يمحو من صفحات الوجود مسقط رأس الوجود.

الذي رضي وظلَّ صامتًا، طينه فاسدٌ والملحُ بريءٌ من رقبته، والذي أشاح بوجههِ، مُعرِضًا عن خنازيرٍ البراري، تُلقي في المصبّ خُبثها كي تقطع رحم الماء، مغضوبٌ عليه، خارجٌ من واسعِ رحمة الهور، وداخلٌ في زحمة الضّالين.

حين تركنا الهور عاريًا، لا ماءَ يستره، ضيَّقت أكفها حول أفواهنا الأسلاف طالعةً من نكبة الجنوب، فَصِحْنا، وانتبهنا أنَّ لا مجيب يردّ الصّياح بالصّياح في مقبرة.
مقبرةٌ تتَّسع كلَّما مشينا، وتكتظُّ بالموتى كلما بحثنا عن حيٍّ يُعيننا على صوتٍ جرَّحَ حناجرنا اليابسة.
تركنا الهور نحمل عطشًا مُبكِّرًا تجهله البلاد، ومشينا نقتفي أثر النّافخ في البوق كي يلفت السُّكارى إلينا.
إنَّنا على مهلٍ نموت، السُّكارى سُكارى، ونافخُ البوق لم نجده.

  • شاعر وتشكيلي من العراق

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة