حوارية الجسد والروح.. في رواية (نهر الرمان) لـ»شوقي كريم»

أ.د. سعد التميمي

يبقى سؤال الموت وقلق الوجود حاضران في ذهن المبدع الذي يبحث على فضاء الحرية، فطالما وقف عندهما وبحث فيهما عن معنى الوجود الإنساني ، محاولا إبراز معاناته وقلقه وهواجسه اتجاه الحياة وتقلباتها ، من خلال انشغاله بجدلية الموت والحياة وحقيقة الفناء مؤسسًا لوجوده وتحقيق ذاته، والتغلب على هواجسه الوجودية التي أرقته منذ ولادته ، رغبة من في اكتشاف العالم والانفتاح عليه من خلال ما يكتبه من نصوص يجسد فيها حضوره ليتحرر من مخاوفه باحثًا عن فسحة من الأمل في مستقبل حالم.
وفي روايته الأخيرة «نهر الرمان» يستثمر الروائي شوقي كريم حوارية الجسد والروح التي تتكرر كثيرا في الرواية ليعالج جدلية الحياة والموت وقلق الوجود الذي ظل سؤالا حاضرا باستمرار طوال الروية التي تنطلق من لحظة واقعية وقف فيها عند نقطة تتجاذبه فيها قوتا الحياة والموت ، لحظة الدخول الى صالة العمليات ، إذ تنطلق هذه الرواية من تجربة موت حقيقية توزعت فيها مشاعره بين الاقتراب الحذر من عالم الموت للحصول على جوابٍ للسؤال الذي طالما كان يلح عليه فبقي معلقًا ليختم به الرواية بقوله(ماالموت … ولماذا يتحتم علينا أن نمارس لعبته طوال حيلتنا؟) فهذه اللعبة التي تمتد العمر كله يختصرها شوقي كريم في ساعات العملية وانتقاله من الوعي الى اللاوعي عند سريان مفعول المخدر ثم الرجوع الى الوعي ،وفي الحالين كان يستحضر المعاناة والخوف والقلق فعندما سألته طبيبة التخدير أن يقرأ لها شعرأ جاء الرد من النفس (ترد النفس الكدرة وغير العارفة الى ماذا تأخذها المسافات؟ وهيهات ما للصبي من رجوع .. ان ماضيّ قبري وإني قبر ماضي .أ موتٌ يمد الحياة الحزينة … أم حياة تمد الردى بالدموع؟) فالروائي في ظل القلق الوجودي يضع الجسد الذي يشير للأنسان بمقابل النفس تارة والروح تارة أخرى والقلب تارة أخرى وهذا التعدد في الطرف الثاني يؤكد حالة التشتت والحيرة في مواجهة الحياة بكل من تضمنته من خوف وجوع وحروب ومطاردة ،ويجنح الروائي في هذا الحوار الى اللغة الشعرية الموحية ،وهو ما نجده يتكرر في الرواية ويأتي وصف بالكدرة وغير العارفة دليل على هذا التشتت والقلق .

عتبة العنوان:
يمثل العنوان عتبة موازية تسهل عملية التلقي وفهم النصوص وتأويلها من خلال فعل قرائي شمولي، يفكك شفرات العلاقات بين عناصره ينطلق الروائي شوقي في هذه الرواية من واقعة حقيقية تتمثل في عملية القلب المفتوح لكنه في سرده للأحداث يدخل المتلقي في عالم افتراضي يتداخل فيه الوعي باللاوعي،وهذا ما يعكسه عنوان الرواية الذي يحمل دلالات سلبية تدل علی الموت والاستلاب، ويتشكل من جملتين احداهما أساسية (نهر الرمان)باللون الأبيض وهي ذات دلالة ايحايئة شعرية تقوم على الرمزية فالنهر يحيل للحياة والخصب والأمل وإکسير الحياة والوجود ،أما الرمان فإنه يحيل الى الدم الذي يرمز للموت ، وقد ورد الرمان في رواية (بيت الرمان) للكاتب والفيلسوف الانجليزي أوسكار وايد كرمز لجمع شتات المختلف في عنصر واحد ، وجاء الرمان رمزا للموت والخطيئة في رواية الكاتب العراقي سنان انطوان (وحدها شجرة الرمان) ومما يؤكد هذه الدلالة الصورة التي تتحقق بالانزياح من خلال اضافة (النهر) الى (الرمان) ،وهي صورة افتراضية،أما الجملة الثانية في العنوان(تجربة موت) فهي ثانوية تفسيرية ذات دلالة مباشرة وهي صورة واقعية تدل على الحضور القوي للسؤال الوجودي الذي قامت علية الرواية وهو الموت،وكلا الجملتين تحيلان الى جدلية الحياة والموت التي هيمنت على متن الرواية سواء أكان من خلال السرد أو الحورات التي دارت بين الطبيب (البضاع) وطبيبة التخدير (المخدرة) والعرافة التي تؤدي وظيفة ايجابية تبث الأمل في طريق البطل الملغوم بالمخاطر والعثرات لتقدم رؤية حكيمة ،والبطل الذي لم يفقد الوعي رغم التخدير، فكان يسرد الأحداث ويحاور بنفسه وتارة أخرى يحاور بلسان الجسد أو القلب أو الروح أو النفس.
ولم يكتف بعنوان الرواية بل كعادته استحضر شوقي كريم بعض المقولات لتكون عنوانًا لبوابات الرواية السبع فضلا عن تقنية السيناريو في سرد بعض أحداث الرواية فضلا عن استحضار المسرح من خلال بعض ابطاله وكتابه ، مما يؤكد انتماء الرواية الى سرد ما بعد الحداثة ، لتنصهر لتشكل الهوية السردية وهذا ما نجده في رواية (نهر الرمان ) فالعلاقة بين الخيال ووالتاريخ في الرواية لا تقوم على المضمون بل على الأسلوب ،وكل ذلك يعزز استتحضاره لمظاهر الحياة حتى وان كانت مؤلمة وموجعة ، ففي استهلال الرواية يوظف مقطعا شعريا لأراغون يؤكد فيه (أن الارض اخبرته بأنها مثلما احتضنت العابه وحمته من الحروب ستحتضنه عند الموت )، فهو يسلم بالموت الحتمي فيقول(من ذا الذي يستطيع الاعتراض أو حتى مساومة الموت؟)، لكنه لا يتنازل عن حقه بالحياة ، فهي متن الرواية التي تمثل دوامة الحياة ، وهذا ما يعكسه تبويب شوقي لروايته ببوابات سبع حملت عنوانات (عند عيون الانتهاك ،عند قافلة القرمز، عند وردة الخرس، عند رحلة الاكتشاف، عند جذور الرماد ،عند مجسّات الملكة، عند مسار العتمة) ولا يخلو عدد البوابات(7) من دلالة رمزية ارتبطت بأيام الأسبوع والانسجام والتوافق لتشكيل دورة كاملة للوصول إلى القمة دلالة على الحياة والتشبث بالحياة (كنت أشعر بها حين تقدمت الروح تبعها قلب موضوع بدورق ونفس مضطربة وسيول من الحكايات الميتة) فالهوية السردية في هذه الرواية تضع تجربة الزمان المعاش وحبكة هذا الزمان في علاقة مباشرة وهي تمر عبر الذاكرة التي يلجأ اليها الروائي لسرد الأحداث وهي الحافظة الأولى للتاريخ وهي تقف بين قطبي الزمان والسرد كونها وسيطا وهي تتضمن النسيان الذي يمثل الأفق المحدود علمًا أن الزمن في الرواية ثانويا يلجأ إليه الروائي عندما يعود الى ذاكرته ليستعيد بعض الأحداث، أما المكان فقد كان حاضرًا بقوة لأنه مسرح الأحداث التي تضمنتها الرواية ،وبالاضافة على عنوانات البوابات يلجأ الروائي الى تصدير هذه البوابات بمقولات شعرية ونثرية ونصوص من العهد القديم (إِنْ كُنْتَ حَكِيمًا فَأَنْتَ حَكِيمٌ لِنَفْسِكَ، وَإِنِ اسْتَهْزَأْتَ فَأَنْتَ وَحْدَكَ تَتَحَمَّلُ) (سِفر الأمثال 9 : 1 ) تكون بمثابة دليل للمتلقي بما تحمله هذه المقولات من طاقات دلالية وأبعاد جمالية.
ويعكس متن الرواية رؤية مختلفة في تناول فكرة الموت بطريقة يتداخل فيها الواقع بالخيال والحلم بالحقيقة والوعي واللاوعي والخط الفاصل بين هذه الثنائيات لحظة سريان مفعول المخدر والتسليم البضاع(الطبيب) ينجح في طرح الحدث السردي في فضاء درامي وبابعاد مسرحية ليجعل المتلقي امام بناء مسرحي من خلال الاعتماد الكبير على الحوار بشقيه الداخلي بن الجسد من جهة والقلب والروح والنفس من جهة اخرى(كلما أراد القلب التوقف حثته الروح قائلة أرجوك لا تتوقف، فالكثير من الخطايا تنتظر عند عودتك فلا تتأخر) وقوله(يقول القلب – ألى أين تراك ذاهب ؟ ، يقول الجسد – لا عليك , فقط كن تابعي، يقول القلب – أنت تريد تغيير قواعد اللعبة فالأجساد هي التي تتبع القلوب ، يقول الجسد – ولم تعترض طوال وجودنا معاً , كنت أطيع ما تجود به و مارفضت حلماً, وما قلت لك لا …) والخارجي بين البطل (الروائي) فالرواية هي أقرب الى سيرة لعملية قلب مفتوح بزمنها الواقعي والافتراضي الذي يستحضر فيه الروائي أحداثا وشخصيات من ذاكرته فالهوية السردية للرواية تتقاطع فيها عناصر سردية عديدة مع الزمان والتاريخ والخيال, فهو يستحضر هاملت وشكسبير وبرناردشو وحضيري ابو عزيز ،فضلا شخصيات كانو في طي النسيان لم يرهم الروائي سوى مرة كشف عنهم في ظل صراع محتدم احاطت به الحروب والمعتقلات السياسة بما تحمله هذه الشخصيات من محمولات دلالية تتماهى مع رؤية الروائي في هذه الرواية عبرت عن اشكالية الواقع ومعطياته في مواجهة الموت (مررت بتجربة موت حقيقية، كأنها تريدني أن أعيد السؤال الفلسفي، لماذا؟) فشوقي كريم في هذه الرواية يعمل على نقل تجربته الوجودية من خلال تجربة واقعية كان الموت هاجسه الذي ركز عليه للتعبير عن توتره تجاه الموت و التخلص من هذا التوتر والقلق الذي يشغل تفكيره والتخفيف من حدته .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة