أستاذي إبراهيم الوائلي.. مواهب لم تأخذ مداها

شكيب كاظم

مازالت في الذاكرة تلك المقالة الرائعة الشفيفة، التي كتبها الأستاذ مدني صالح عنه، وتلك اللوحة القلمية التي رسمها وقدمها للقراء، كان ذلك منذ سنوات بعيدات وعلى وجه التحديد؛ يوم السبت ٢٨من شهر مايس/ مايو ١٩٨٣، كانت تلك المقالة الوردة التي رميت في بحيرة أستاذي إبراهيم الوائلي، الهادئة الساكنة، فحركته للعودة إلى عالمه الأثير؛ عالم الكتابة والشعر، فشهدت سنوات العقد التاسع من القرن العشرين، نشاطا ثقافيا واسعا للوائلي، فنشر في صحف: ( الثورة ) و(الجمهورية ) و( العراق )، ولقد خصصت له(الثورة) حقلاً لغوياً أسبوعياً عنوانه: (من أغلاط المثقفين) صدرت الحلقة الأولى منه يوم السبت ٩ من شهر آب/ أغسطس ١٩٨٦، كما كتب مقالات: (مع الراحلين) كانت إحداها عن المرحوم الدكتور مصطفى جواد، نشرت في ٨ آذار ١٩٨٨، وأخرى عن صديقه الأديب المصري الراحل نعمان عاشور، وكان الأستاذ حميد المطبعي يحرر زاوية في جريدة(الثورة) عنوانها: (بغداد بين الماضي والحاضر)، فكتب الوائلي من خلالها عن (مقهى الرشيد) وظل ينشر في الصفحة الثقافية بجريدة (العراق) شعراً ونقداً وتصويباً وتعليقاً حتى وفاته – رحمه الله- ليل الجمعة ١٥من نيسان/ أبريل ١٩٨٨.

الدراسة في مصر
لقد سكت الوائلي سنوات طويلة، بعد أن ملأ الدنيا كتابة وشعرا في صحف العراق ومجلاته، فكتب في جريدتي:( الراعي) و(الهاتف) اللتين كان يصدرهما المرحوم الأديب جعفر الخليلي، حتى إذا غادر الوائلي النجف نحو بغداد، واصل الكتابة في صحف بغداد أوانذاك: (الزمان) و(الأخبار) (البلاد)، وإذ شَخَصَ نحو مصر للدراسة فيها، داوم على الكتابة في مجلات مصر وصحفها، ومجلات الشام ولبنان، وتعرّف إلى أدباء مصر وقتذاك ومازلت أتذكر مقالته عن صديقه الكاتب المسرحي نعمان عاشور، يوم رحل هذا سنة ١٩٨٧.
لقد شخص نحو مصر للدراسة، فتخرج في كلية دار العلوم بالقاهرة سنة ١٩٤٩، وحصل على درجة الليسانس بدرجة جيد جداً، ثم واصل تحصيله العلمي، فحصل على شهادة الماجستير سنة ١٩٥٦، وكان عنوانها(الشعر السياسي الحديث في العراق) فعاد كي يدَرّس في الثانوية المركزية ببغداد، ومنها انتقل سنة ١٩٥٨ للتدريس في كلية الآداب بجامعة بغداد، ولقد بدأ بالتحضير للدكتوراه، وكان موضوعها(التطور والتجديد في الشعر العراقي من سنة ١٩٠٠-١٩٣٩) ولم يتمها، ولقد كان بودي أن يقف الأستاذ حميد المطبعي، يوم نشر مقابلاته مع الوائلي في جريدة (الثورة) منتصف عقد الثمانين من القرن العشرين، تحت عنوان: (الجذور في تاريخ العراق الحديث)؛ لقد كنت أود لو وقف طويلا عند هذا الموضوع المهم في حياة أستاذي إبراهيم الوائلي، لكنه أوجز ومر به مروراً سريعاً، ففي كتابه: (إبراهيم الوائلي) الصادر في ضمن سلسلة(موسوعة المفكرين والأدباء العراقيين) وهي المقابلات ذاتها التي أجراها المطبعي مع عدد من أعلام العراق، والتي نشرها في(الثورة) في ضمن زاوية (الجذور في تاريخ العراق الحديث) قال المطبعي: «.. وعاد إلى بغداد ومعه منهج الرسالة فجمع وتتبع وأخذ يكتب الفصول الكثيرة لكنه لم ينل هذه الدكتوراه بسبب ظروف معينة «.
والدكتوراه هذه، مطمح الأنفس ومهوى الأفئدة، وكدت أقول ومسرح التأنس، وأنا هنا أستعير من الفتح بن خاقان عنوان كتابه، ألذي خصصه لمُلَح أهل الأندلس، أقول: ضاعت الدكتوراه منه، كما ضاعت من أستاذه طيب الذكر عمر الدسوقي، ذلك الرجل العربي المصري صعب المراس في الدراسة والإشراف، والذي كان يمنح الدكتوراه لطلابه، شأنه شأن الأستاذ إبراهيم الوائلي، ويتحسر هو نفسه عليها، فلقد فوّتها عليه المبطلون، كما حُرِمَها مدني صالح، وعبد المطلب صالح، وشكيب كاظم، ولقد بقي الأديب المصري شامي الأصل؛ مصطفى صادق الرافعي- كما قال الدكتور (الراعي كما يود أن يوصف بدلا من الدكتور!) مصطفى نعمان البدري (بدر الدين كما يرغب أن ينعت!) في مقالته المنشورة في جريدة (العراق) في ٢٦ من آذار ١٩٨٦- بقي الرافعي إلى آخر أيامه يتحسر على أيام الدراسة التي أضاعها عليه المرض، كما ضيعتها السياسة من الأستاذ محمود أمين العالم!
لقد أمضى الوائلي سنوات عمره التي نافت على السبعين، في البحث والدرس ونظم الشعر، فكان مولده في قرية (الصقر) قرب ناحية كرمة علي بالبصرة سنة ١٩١٤، وأمضى شطراً من عمره في مدينة النجف، فتعلم في مجالسها ودواوينها، وألقى قصائده في مجالسها التي نالت إستحسان البعض، وأثارت غضب آخرين، وقد كان لأبيه الشيخ محمد شأن في تربيته وتعليمه، ومن النجف شخص نحو بغداد، ومنها إلى القاهرة، فكانت حصيلة هذه السنين؛ مجموعة من الكتب والدراسات منها: ديوانه الشعري، وقد أصدرته وزارة الثقافة والإعلام العراقية بجزءين سنتي ١٩٨١و١٩٨٢وكتابه (إضطراب الكَلِم عند الزهاوي) و(الشعر السياسي العراقي في القرن التاسع عشر) و(وحرب طرابلس وأثرها في الشعر العراقي) و (من لقيط إلى اليازجي) ويقصد من الشاعر لقيط بن يعمر الإيادي إلى الشاعر إبراهيم اليازجي، ويذكر الباحث الأديب حميد المطبعي في كتابه: (إبراهيم الوائلي) أن لأستاذي- رحمه الله- بحوثاً لم تنشر منها:
١- أطروحة الدكتوراه التي لم تناقش وعنوانها:( التطور والتجديد في الشعر العراقي من سنة ١٩٠٠-١٩٣٩).
٢- أثر التراث في شعر القرن التاسع عشر.
٣- اللغة الدارجة والفصيحة في ريف البصرة.
٤- محاضرات في البلاغة العربية.
٥- محاضرات في علم العروض.
٦- الأصوات اللغوية في التراث.
٧- النحو وسيلة لا غاية.
٨- الراحلون.
٩- ضباب في الأثير.. وهو نقد لغوي لأغلاط المذيعين والصحفيين.
ترؤسه لجان المناقشة
لقد أمضى الأستاذ إبراهيم الوائلي، أكثر من ثلاثة عقود في ميدان التدريس، سواء أكان في الثانويات أم في جامعة بغداد، وكان من أقرب الأساتذة إلى نفوس طلابه، وبرغم جفاف مادة النحو العربي التي درسها لنا أيام الطَلَب في كلية الآداب بالجامعة المستنصرية؛ قسمها المسائي، في السنة الدراسية ١٩٧٢-١٩٧٣، فقد كان يبدد هذا الجفاف بحلو تقديمه المادة وتقريبها من الأذهان مع مُلْحة وطرفة يرصع بها حديثه، وما زلت أتذكر أن أحد زملائنا، وقد قاربت السنة الدراسية على الانتهاء قد رجاه شيئاً ما مستعملا تعبير: «رفقاً بالقوارير، أستاذ «. فما كان منه- رحمه الله- وسيماء بسمة تطوف على وجهه الكريم، إلا أن قال: انظروا إلى زميلكم، كيف يخطىء في الخطاب، ويلحف في الرجاء! فضحكنا عارفين مغزى تعليقة أستاذنا.
ترى هل سيفهم القارىء معناها ومغزاها؟!
إذن لأقول: لقد استعمل زميلنا وصف القوارير، وهو ألذي يطلق على النساء الرقيقات والفتيات، وكأنه شبه نفسه بالفتيات!
وعلى الرغم من أنه لم ينل الدكتوراه- كما سبق أن أشرت- فإنه أشرف على أكثر من بحث في الدكتوراه، كنت أحضر المناقشات، فنتمتع بسويعات من الثقافة والأدب والتراث بقسم الدراسات العليا وما زال في الذهن شيىء من مناقشة أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها الباحث حاكم مالك لعيبي- ألذي سيتوفى بحادث اصطدام سيارة بعد ذلك بمدة وجيزة- وعنوانها:( إبن بري اللغوي) كان الأستاذ إبراهيم الوائلي رئيس لجنة المناقشة، وذلك مساء الأحد ٢٩ من تشرين الثاني ١٩٨١.
لقد توقع الوائلي أن ينسى؛ ينساه الناس، والناس غالبا تنسى، فالذاكرات مثقوبة وا أسفاه! فلقد قرأت أكثر من دراسة ومقالة نشرت في الصحف غبّ وفاته ليل الجمعة الخامس عشر من نيسان ١٩٨٨، فلقد نعاه الباحث حميد المطبعي، ثم كتب عنه الأستاذ عبد الحميد الرشودي مقالة في ثقافية جريدة(العراق) يوم ٢٣نيسان ١٩٨٨، وثالثة بقلم أستاذي الفاضل الدكتور محسن جمال الدين- رحمه الله- في ثقافية(العراق)- كذلك- في ٢٥ من نيسان ١٩٨٨، وكتب الأستاذ مؤيد معمر وأمسى الأستاذ مهدي شاكر العبيدي آخر من كتب في جريدة (العراق) في ١٦ حزيران ١٩٨٨، وعادت صفحة ماء الوائلي ساكنة، عادت البحيرة إلى هدوئها، فلا مقالة تكتب ولا وردة مثل وردة الأستاذ مدني صالح ترمى، وليس هناك من يذكر أو يتذكر، فهل من زميل يذكر أو طالب نهل على يديه العلم ينوه ويشيد؟ أم على قلوب أقفالها؟
لقد صح توقعه وهو يتحدث للمطبعي في كتابه (إبراهيم الوائلي)».. ولكن إذا صح القياس، فأنا سأكون من المنسيين، لأن أقراني ومن كان قبلي من الشعراء في العراق، قد انتهوا وانتهت سيرهم، ولم يذكرهم ذاكر على أنهم أعطوا الشيىء الكثير «.
وكم رغبت أن يكون توقع الوائلي هذا خطأ، وما رغبت له الخطأ إلا في هذا الموضع؛ هذا التوقع..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة