«مزراحيم» عن اليهود الشرقيين.. «أرض الميعاد» الملأى بالخيبات

«كانوا يحلمون بالقدس فتلقّتهم الرمال»!

ندى الأزهري

صحراء النقب كانت بانتظارهم، أراض بور، لا ماء ولا مواصلات ولا سكن. وصلوا فوجدوا بيوتًا «خالية»، يا للصدف الغريبة! كأنها تُركت لهم، كأن لا أصحاب لها، أو أنهم تخلوا عنها طواعية. لا إشارة، لا كلمة عن اغتصاب حق، عن احتلال مكان. في فيلم «مزراحيم (شرقيون)» (2022) الوثائقي للإسرائيلية الفرنسية ميشال بو غانم، كلّ التركيز كان على مأساة القادمين الأوائل إلى «أرض الميعاد»، كأنهم وحدهم الضحايا، مع خيبةٍ لهم لم تنته من تمييز عنصري إسرائيلي بحقهم، وعمل يدوي بانتظار سواعدهم. هم اليهود المشرقيون الذين كانوا يعيشون حياة حلوة في المغرب، كما ذكروا، أو في العراق واليمن… بلاد الأصل، في مدنهم، بصحبة الجيران، يصلون إلى مكان لا يعرفون فيه أحدًا، ولا يرأف بهم أحد، عليهم العمل والعمل الشاق فهم غير أكفاء ليكونوا غير ما رُسم لهم وما كان بانتظارهم. هم الذين قدموا من بلاد المسلمين، يجب الحذر منهم، من تعصبهم وعنفهم. ادعاءات كانت باستقبالهم في «أرض الميعاد» لترويضهم وتبرير معاملتهم.
تميّزُ فيلم «مزراحيم، منسيو أرض الميعاد» الذي يُعرض في بضعة صالات باريسية، لا يأتي من موضوعه المعروف بعناوينه العريضة، إنّما من جرأته وكشفه عبر الأدلّة والشهادات معاناة اليهود الشرقيين في إسرائيل والتمييز العنصري الذي يطالهم. فيلم يبدي (لمن يقبل أن يرى هذا) الطبيعة الاستعمارية لاحتلال أرض فلسطين، مع يهود أوروبيين غربيين قدموا واحتلوا الأرض، وعاملوا كل ما عداهم كمواطنين من درجة ثانية لخدمتهم وتسهيل استقرارهم، إنه الاستعمار القائم على الإيهام والترفع والاستغلال. لكن الفيلم ليس سردًا تاريخيًا أو تحليلًا اجتماعيًا، إنّما ربطٌ لتاريخ شخصي بوضع اجتماعي عام رغبت المخرجة عبره تكريم مسيرة والدها اليهودي المغربي الراحل، والإضاءة على أرض ميعاد مبتلاة بخيبة أمل تفرض طرح السؤال: لماذا لم تكن أرض الميعاد ميعادًا للجميع؟
اتبعت المخرجة نفس الطريق الذي سار عليه والدها منذ وصل من المغرب إلى فلسطين على ظهر باخرة في خمسينيات القرن الماضي مع قوافل اليهود الشرقيين. صدمة أولى، حين أدرك القادمون في الباخرة اقتراب الأرض الموعودة، بدأوا بالتهيؤ صغارًا وكبارًا، خلعوا عنهم ملابس السفر، غير اللائقة برأيهم ليطأوا المكان، وارتدوا ثياب العيد، بدوا في حلّة بهية لم يكترث لها المستقبلون في حيفا، فكل ما كان يهمهم رشّ القادمين من بلاد المسلمين ببخاخات ال د. د. ت. معاملة لا يمكن أن يتألم لها كل صاحب قلب دون أن يصاحبه تساؤل عن أسباب قدومهم، تركهم لبلاد حنّوا إليها فيما بعد، مشاعرهم في أرض الغير. لكن، لا إثارة لهذا في الفيلم. كأن القدوم إلى فلسطين كان محتمًا ولا تساؤلات حوله. لا حديث عن أسباب ولا عن أصحاب أرض طردوا ليأتي هؤلاء، تجنبت المخرجة هذا وكان يمكنها على الأقل شرح مبررات والدها (دينية، اجتماعية، اقتصادية…؟) ومشاعره بهذا الخصوص. تتتابع صور الأرشيف في الفيلم مع عملية الفصل الفوري لليهود الشرقيين عن الأشكناز يهود الغرب، وعن محاولات إقناع لم تكفّ على أنهم ليسوا على المستوى وليس أمام أطفالهم إلا التعليم المهني. حتى اليوم، تروي أجيال جديدة أمام كاميرا المخرجة، كيف أن الدراسة في الجامعة كانت مغلقة أمامهم، كما أغلقت أمام آبائهم الذين كان عليهم البقاء في الطبقة الدنيا لمدّ الأمّة باليد العاملة والسكن في أطراف المدن فقط بعيدًا عن سكن الأشكناز.
في إسرائيل بضعة أفلام حول الموضوع وتحقيقات، ولكن في كل مرة كانت بو غانم تذهب إلى هناك كانوا يحاولون اقناعها بأنه موضوع مستهلك، بما يعني أنه من الماضي، فلماذا متابعة الحديث عنه إذًا؟ لذلك كان معظم تمويل الفيلم فرنسيًا، أما المساهمة الإسرائيلية فكانت ضئيلة جدًا. هو مشروع لم يكن ليكتمل في إسرائيل، كما أعلنت المخرجة في حوار ترويجي للفيلم في فرنسا، فسرد كيف كان التمييز مطبقًا على نحو ممنهج «لم يكن لينال الإعجاب»، كما تظن.

  • صحفية سورية مقيمة في فرنسا

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة