أغاني التعبئة.. من سيد درويش وعمر أبو ريشة والشيخ إمام

«بلادي بلادي» أصبح عندي الآن بندقية» «أحلف بسماها»..

خطيب بدلة*

في حديثنا عن أغاني التعبئة، أقول: إنني على ثقة بأن أغاني التعبئة الوطنية قادرة على الصمود في وجه الزمن أكثر بكثير من الأغاني التي تمجد زعيمًا سياسيًا، أو حزبًا حاكمًا، أو برنامجًا حزبيًا، أو إجراءً يصدر عن السلطة الحاكمة، بدليل أن الإنسان العربي اليوم يمكن أن يطرب لنشيد موسيقار الشعب سيد درويش «بلادي بلادي»، ويردده مع نفسه، ولكن من رابع المستحيلات أن يفعل الشيء نفسه مع الأغنية المأخوذة عن الشاعر محمد مهدي الجواهري في مديح الديكتاتور السفاح حافظ الأسد، وتغنيها ميادة الحناوي، وتقول فيها:
يا حافظَ العهد يا طلاعَ ألوية
تناهبتْ حلباتِ العز مُسْتَبَقَا.
ملاحظة: الأغنيات التي تمجد الحكام الديكتاتوريين كثيرة، ولكنني اخترت أغنية ميادة الحناوي هذه، لأنها تستحق الذكر، فقد صُرفت عليها أموال كثيرة، واللحن الذي أنجزه صفوان بهلوان قوي، ومتقن، لا يعيبه سوى كونه يمجد الديكتاتور.
من قاسيون أطل يا وطني
نتوقف هنا عند أغنية شهيرة، كتبها الشاعر خليل خوري، ولحنها الموسيقار سهيل عرفة، وغنتها أول مرة المطربة السورية لودي شامية، وغنتها بعدها دلال الشمالي.
(اشتهرت لودي شامية خلال فترة قصيرة، في الستينيات، ثم اختفت، وكانت لها قصة مع الضابط سليم حاطوم، وهو من قيادات البعث الأولى، حتى سنة 1966).
أغنية «من قاسيون»، حقيقة، ملتبسة، فمطلعها يوحي بأنها ستكون أغنية وطنية صرفًا، تسعى لتمجيد مدينة دمشق والجبلَ الذي يطل عليها، إذ تقول:
من قاسيونَ أطل يا وطني
فأرى دمشقَ تعانق السحبا.
ولكنها سرعان ما تبدأ بمديح حزب البعث الذي استولى على الانقلاب العسكري الذي قاده الضابط زياد الحريري سنة 1963، وأطلق عليه اسم ثورة آذار، فتقول:
آذار يدرجُ في مرابعها
والبعث ينثر فوقها الشهبا.

نزار وأم كلثوم
هنالك مؤشرات كثيرة على أن الأغاني التي لها علاقة بالتعبئة جمهورُها قليل بالقياس مع الأغنيات العاطفية، فلو ذهبنا إلى يوتيوب لوجدنا أن عدد مشاهدات قصيدة (أصبح عندي الآن بندقية) التي أبدعها، سنة 1969، ثلاثةُ عمالقة كبار: أم كلثوم، ونزار قباني، ومحمد عبد الوهاب، يبلغ حوالي ربع مليون مشاهدة، بينما شاهدَ أغنية «إنت عمري»، التي أطلق عليها (لقاء السحاب) تسعة ملايين، وسجلت أغنية «الأطلال» لرياض السنباطي عشرين مليونًا من المشاهدات.

في سبيل المجد
يبدو الشاعر السوري عمر أبو ريشة مولعًا بالأمجاد. ومن أشهر قصائده «عروس المجد»، التي لحنها فيلمون وهبي، وغنتها سلوى مدحة، ويفتتحها بقوله:
يا عروس المجد تيهي واسحبي
في مغانينا ذيولَ الشهبِ
لن تري حفنة رملٍ فوقها
لم تعطر بِدِمَا حر أبي
درجَ البغيُ عليها حقبة
وهوى دون بلوغ الأربِ.
وأبو ريشة هو الذي كتب النشيد الحماسي الذي لحنه اللبناني محمد فليفل (1899 ـ 1985)، ويقول:
في سبيل المجد والأوطان نحيا ونبيدْ
كلنا ذو همة شماء جبار عنيدْ
لا تطيقُ السادةُ الأحرار أطواق الحديدْ
إن عيش الذل والإرهاق أولى بالعبيدْ.
تعقيب أول: كانت سلوى مدحة من أهم مطربات الخمسينيات في سورية، وقد تعرضت، بعدما حققت شهرة واسعة، لأزمة مع عائلتها التي ترفض الفن، واضطرت لسحب أسطوانات أغانيها من الإذاعة. مدير الإذاعة، يومئذ، أعطاها كل الأسطوانات، مشترطًا أن تحتفظ الإذاعة بـ»عروس المجد»، باعتبارها تغني للوطن، ولا يوجد فيها ما يخدش شعور العائلة. ولو لم يفعل ذلك لذهبت هذه المطربة المتميزة، وذهب ذكرها.
تعقيب ثان: لا يليق بشاعر مثل عمر أبو ريشة ما جاء في المقطع الذي يقسّم المجتمع إلى أحرار وعبيد، ثم يهين إنسانية العبيد بقوله (إن عيش الذل والإرهاق أولى بالعبيد).

أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام
شكل الشاعر أحمد فؤاد نجم، والمطرب الموسيقار الشيخ إمام، منذ 1962، ثنائيًا فنيًا متخصصًا بأغاني التعبئة. وقد أنتجا نوعين من الأغاني، الأول هو الأغاني الوطنية الخالصة، والثاني أغنيات تهزأ من حكام الغرب، وأبرزها أغنيتان، الأولى تتناول الرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان، والثانية لريتشارد نيكسون:
شرفت يا نيكسون بابا
يا بتاع الووتر جيتْ
عملوا لك قيمة وسيما
سلاطين الفول والزيتْ
فرشوا لك أوسع سكة
من راس التين على مكة
وهناك تنزل على عكة
ويقولوا عليك حجيتْ.
ومن الأغاني الوطنية الرائعة التي أبدعها الثنائي نجم وإمام، «مصر يما يا بهية»، التي أنتجت سنة 1984، وهي تشد همة الشعب للاعتداد بقوته، وحثه على الصمود في وجه الزمن، والإيمان بالمستقبل.
مصر يا امّة يا بهية ـ يام طرحة وجلابية
الزمن شابْ وانتي شابّة ـ هو رايح وانتي جاية
جاية فوق الصعب ماشية ـ فات عليكي ليل ومية
واحتمالك هو هو ـ وابتسامتك هي هي
تضحكي للصبح يصبح ـ بعد ليلة ومغربية
تطلع الشمس تلاقيكي ـ معجبانيّة وصبية.

أحلف بسماها
أغنية عبد الحليم «أحلف بسماها» التي لحنها كمال الطويل وغناها عبد الحليم حافظ (1967ـ قبل حزيران/ يونيو) تتألف من كوبليه واحد.
أحلف بسماها وبترابها
أحلف بدروبها وأبوابها
أحلف بالقمح وبالمصنع
أحلف بالمَادنة وبالمدفع
بأولادي بأيامي الجاية
ما تغيب الشمس العربية
طول ما أنا عايش فوق الدنيا.

«»مصر يما يا بهية» أنتجت سنة 1984، لتشد همة الشعب للاعتداد بقوته، وحثه على الصمود في وجه الزمن، والإيمان بالمستقبل»
تنتصر هذه الأغنية للاتجاه القومي، العروبي. هذا الأمر منسجم مع فكر الشاعر الكبير الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ومع الاتجاه السائد في تلك الفترة. وإذا دققنا في الكلمات القليلة التي تتألف منها الأغنية نجد أن المقصود بـ سماها وترابها ودروبها وأبوابها: الوطن.. وتعبر جملة القمح والمصنع عن الفلاحين والعمال، المادنة ترمز للدين الإسلامي، والمدفع لقوة الجيش، و(أولادي وأيامي الجاية) تعبران عن الأبوة والمستقبل، ويقول: أحلف بكل هؤلاء أنني سأُبْقي الشمس العربية مشرقة ساطعة.
الأغنية جميلة، ولكنها طوباوية بامتياز.

  • أديب وكاتب سوري

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة