حطحوط

كنت أدرك وأنا ماأزال في سن مبكرة أن من أهم أدوات التغيير في المجتمع هو المسرح الجاد، الذي يصنع الوعي، ويبني العقل، ويطور الذائقة. لكني لم أستطع أن ألمس هذا الفارق إلا حينما حضرت مسرحية بعنوان «حطحوط» في قاعة التربية – عتبة حالياً – في مدينة البصرة مع ثلاثة من زملائي الطلبة. ولم يكن هؤلاء الشبان الذين لم يتجاوزوا الخامسة عشرة قد ألفوا هذا النوع من الفنون فتوجسوا من إضاعة الوقت والمال فيه! وكانوا يفضلون الذهاب إلى السينما عليه. ولم تفت ملاحظة ذلك على منظمي العرض فكان أن قاموا من جانبهم بخصم 50% من ثمن التذكرة تشجيعاً لهم على المجازفة، وإغرائهم بمشاهدة العرض وإشفاقاً منهم على حداثة السن. وكان لتلك البادرة أثر طيب في نفوسهم، فاستجابوا للأمر بعد تردد قصير.
ولم يخيب أصحاب هذا العمل ظني، ولم يتسببوا بإحراجي مع هؤلاء الزملاء، فقد كان العرض الذي هيمن عليه الممثل الأول السيد حسين الموسوي مسلياً وهادفاً ومقنعاً. بل إنهم أثنوا على مبادرتي هذه، وأخذوا يمنون أنفسهم بعروض أخرى إن سنحت الفرصة. وللأسف فإننا الأربعة لم نحظ بمثل هذه الفرصة، ولم نجتمع مرة أخرى في هذه القاعة أو سواها في مدينة البصرة. فقد تفرقت بنا السبل، وذهب كل منا في طريق. ولم تدع لنا الظروف فرصة جدية لارتياد المسرح، واكتفينا بمشاهدة ما يقدم منها على الشاشة الفضية.
بعد سنوات طويلة، وبالتحديد في عقد التسعينات من القرن الماضي، شرعت باصطحاب طفلي الصغيرين لحضور عروض مسرحية في العاصمة بغداد. وكانت الحركة المسرحية يومئذ قد بلغت ذروتها تحت مسمى المسرح التجاري. أما الممثلون الذين نهضوا بعبء هذه العروض فهم نجوم الوسط الفني، وأصحاب الحضور الدائم في الشاشة الصغيرة. وكان هذا الأمر بحد ذاته عامل جذب وسعادة للكثير من الشبان. ومازال صغيراي اللذان كبرا الآن يتذكران تلك العروض، مثلما أتذكر أنا مسرحية حطحوط تلك، ويتطلعان لحضور مثيلاتها بلهفة. لكنهما لم يعيا أنهما حظيا بالعروض الأخيرة لمسرح لفظ أنفاسه بعد ذلك بقليل.
إن تشجيع النشء على ارتياد المسرح، أو حضور المهرجانات العامة، هو الشرط الأول لبناء حركة فنية في البلاد. فبه نصنع أجيالاً تتولى دعم الثقافة وتطويرها في قابل الأيام. أما إذا أغفلنا هذا الشرط، وهو ما حدث بالفعل، فعلينا أن نتوقع عزوفاً تاماً عن أي نشاط فني أو أدبي أو إنساني يضع أقدامنا على سلم الحضارة. ويجعل إسهاماتنا في المجتمع العالمي نافعة وجدية. وأحسب أن الظروف التي حكمت على المسرح العراقي بالانحسار في طريقها للزوال. وأن عصراً جديداً من الانفتاح سيعيد الأنشطة الفنية إلى سابق عهدها. والأهم من ذلك كله أن يعود كتاب المسرح الجادون إلى الساحة، ويشرعوا في الكتابة من جديد، حتى لو كان ذلك بنفس آخر، لا يمت بصلة إلى ما درجوا عليه في أواخر القرن العشرين.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة