التداخل الخطابي في الحدث الروائي.. قراءة في «ريم وعيون الأخرين»

إبراهيم رسول

السيطرةُ والهيمنة في الرواية أو في الخطاب الروائي، هي فرضُ رُؤى الكاتب على شخصياته بصورةٍ قد تكون إجباريةً تارة وقد تكون غير إجبارية تارةً أخرى وفي بعض الأحيان تكون كلاهما، إنَّ ما نلحظهُ في الخطاب الروائي في هذه الرواية. أنّها تشتغلُ على أصواتٍ متعددة، وهذه الأصوات أكسبت السرد قوة وحيوية وتفاعلا دراميا بين الكاتب والمتلقي، هذه التقنية كانت ميزةً مهمةً لمد عرى التواصل بين الثنائي (المنتج _ المتلقي)، فعملية التواصل فرضتها طبيعة الرسالة التي يُراد تقديمها عبر طرح سلسلة أحداث تنسجم بواسطة نسيج مُحكم، يتقارب في كثيرٍ من الأحيان. المؤلف لا يمكن أن يتجرد تجرداً تاماً عن شخوصه، فهو منشغلٌ بكلِّ ما يخصهم، فرحهم، حزنهم، ألمهم، هو معنيٌّ بهم كأنهم فلذة كبده، يرسم مستقبلهم الذي يرتضيه لهم، ويتدخل في حياتهم الخاصة ويفرض نفسه عليهم أيما فرض، هذه ميزة عامة وثابة إلا أنَّ هناك أدباء تحرروا من هذه التقنية، وصاروا يبدعون بمقدار ما يتجردون ويتركون الشخصية تواجه مصيرها بنفسها، ولكن في هذه الرواية نلمحُ أن الكاتب يؤثر تأثيراً واضحاً ويتدخل كثيراً في الحيوات الخاصة لشخوص روايته! قد يكون هذا مبرراً له في التنظير الفكري الذي يريد أن يبثه عبر نصٍ سرديٍّ، وقد تكون تقنية ارتضاها لتعبر عن خطابه الذي يريد أن يطلقه إلى الجمهور.
ندخل للرواية عبر حدثٍ مبهمٍ لا نعرفه حتى نصل صفحة 34, والذي ينكشف بوضوح وجلاء، ويرتسم السرد خارطة واحدة بعدها، إذ البناء الفني للرواية لم يكتمل حتى وصلنا عتبة الصفحة الخامسة والثلاثين، والتي تشكلُ بؤرةً جديدة سنخوض مع الشخصيات صراعاتهم. الدخول كان بهيأةٍ ضبابية ملغزة وغير مفهومة، (نهض خالي متذمراً… أشعل سيجارة على غير عادته…). يرد اسم الشيخ سرحان كأوّل شخصية، ويأتي الذكر مصحوباً بتذمرٍ واضحٍ على محيا الخال وأخته، كأن الكاتب أراد أن يضع للعتبة الأولى عنصر تشويق ملغز، ولم نعرف ما هذا اللغز حتى يأتي الشيخ سرحان مع مجموعة لطلب يد المتحدثة (ريم) والتي لم نكن نعرف أن المتكلمة أنثى حتى سمعنا بأمر الخطوبة! وهذه صورة فنية تُحسب للرواية. إن النص جعلنا ننشغل بالسؤال عن السبب الحقيقي الذي يكمن وراء كره الشيخ سرحان، لكن المتلقي سيسرع في القراءة ويشحذ الهمة ليصل إلى فك الشفرة، وسرعان ما يصل على صفحة 34 ليعرف السبب كاملاً, فدعائم أركان الرواية قد اكتملت تماماً, وبقيَ الدور الأكبر على الكاتب أن يُطورَ أحداث الرواية لتكون مقبولةً ومشوقةً عند القارئ، هنا يتحول النص إلى العرض الذي سبقته مقدمة أخذت أس الرواية وقطبها الأعظم, لتتحول الرواية إلى نص أصابها الرود السردي, إذ الرواية تقطعت إلى ثلاثة مقاطع( مقدمة, عرض, خاتمة) وفق هذا أصاب المتلقي داء الكسل نوعاً ما, إلا أن هناك وخزات وضعها الكاتب لتكون إشارة تنبيهية للجمهور, أن يعيدوا التأمل في السيرة الروائية.
حتى صفحة 13 لم يكن هناك مكان للرواية ولا زمان معروف، لكن النزعة التاريخية التوثيقية ظهرت بجلاء بعد أن انتهت الخطبة على ما انتهت عليه, وبعد أن ظهرت لنا شخصية البطلة ريم وهي شابة يافعة, تقف موقفاً جريئاً أمام مجموعة من الرجال، ريم هذه، كانت قد اشترطت شرطاً للزواج, جعلت المجموعة تعيش حالةً من الإعجاب والحيرة في هذه البنت, القاص في المقدمة الأولى والتي شكلت ثلث الرواية يشتغل على تقنية الترميز وبث الألغاز في سرديته، فمثلاً رمزية التل التي عايشناها بخوفٍ وترقب, وبقي هذا الخوف حتى عرفنا لغز التل, وحتى عرفنا أن للبطلة ريم ذكرى قاسية ومؤلمة حول هذا التل, وموت والدها أعطى دعامة لحالة الترميز وقوة اقناع من المُنتج إلى المستهلك, فريم تصف نفسها بالنعجة, في حين أنها تصف الشيخ سرحان بالطاووس؟ هذا التشبيه تدعمه رسائل مبطنة لم تنكشف حتى يمضي القارئ في القراءة طويلاً. أهمية المكان والزمان الروائي تضع أسساً لدى المتلقي ليتخيل المكان والزمان مع ابراز أهمية للخيال الروائي ليكون متناغماً مع طبيعة السردية التي يبثها الروائي، فقدرة الروائي يجب أن تترك مساحة للتخييل، وألا تجعل القارئ يقرأ نصاً توثيقياً أو تقريرياً، فالمكان قرية من قرى محافظة بابل، والزمان يبدأ في النصف الثاني من القرن العشرين أو قبله بقليل. إذن ما نعني به التداخل الخطابي هو تداخلٌ بين خطاب الكاتب وخطاب الشخصية، فهذا الصراع كان مستمراً منذ لحظة الشروع الأولى.
طبيعةُ أيُّ عملٍ يحتاجُ إلى خالقٍ ومُنتجٍ يُكيّف العمل ويصوغه بصياغةٍ تتجلى فيها العبقرية الابداعية البحتة, لكن يريد السارد أن يتدخل في توجيه الشخصيات وهذا ما حصل مع ريم, الشيخ سرحان, الخال, هؤلاء كانوا يسيرون بخطابين متناقضين, فالكاتب لديه خطابٌ والشخصية لديها خطابٌ وهنا تتجلى الهيمنة في هذا التمازج أو اللا تجانس, لأن لكل منهما رأيٌ خاصٌ يمثل الأطر التي يسير وفقها. ولعل تعدد الأصوات الساردة خفف من تدخل الكاتب السافر, إذ استطاعت الشخصية أن تخلق لها عالماً تتحرك فيه دون الخوف أو الوجل من عين ويد الرقيب, في صفحة 39: ينكشف اللغز الذي شوقنا له الكاتب وجعلنا نركض وراءه بحثاً عن تفسيرٍ مقنعٍ, إلا إن الشيخَ سرحان كشف لنا لغز الموت في التل, وفي هذا الكشف ينتهي عنصر التشويق الأكثر إثارةً, وندخل في عنصرٍ آخر, وهو مستقبل ما سيحدث مع ريم, التي كوّنَ لها السارد في مخيلتنا كاريزما خاصة جعلنا نتعاطف معها ونتحمس لها, على الرغم من أن مواقف ريم لم تكن شجاعة بما يجعلنا نتحمس لها كل هذا الحماس, وربما تعاطف الكاتب معها وحبه لها جعله يفرط في بناءها النفسي والاجتماعي. ويكون التداخل الخطابي نتيجة لصراعٍ محتدم في مخيلة الكاتب قبل ولحظة الكتابة، وهذا الانطباع الذاتي الذي أسبغه على شخصياته يدلل ما نذهب إليه، إن التأثير الخطابي للكاتب كان ذا سطوة واضحة، فنرى أن الشخصية تريد أن تتحرر منه لكنها غير قادرة، فمثلاً شخصية والد ريم، الذي كسر المحظور وقرر أن يكون متمرداً على الشيخ وعلى جبروته وتعنته، واستطاع أن يصل إلى التل، لكنه دفع ثمن تمرده حياته ويُتم ابنته. التساؤل هنا, إذ لم تردد مبررات تسبق الحداث الدرامي, ليعطي القارئ فرصة لبناء قصة في خياله, سرعة روي الحدث جعلت المتلقي لا يعرف الترابط النسيجي بين أجزائه, هذا التداخل كثُر في الروايات التي صدرت حديثاً, بحكم الانفتاح الثقافي الكبير والفتح المعرفي الواسع, الكاتب يقف أمام عشوائيات كثيرة وكبيرة, ويراد منه أن يصقلها وينظمها وفق ترتيب روائي, كل هذه تقف عوائق كبيرة في مسيرته السردية، لذا فالنصوص السردية اليوم، صارت تعنى بالشخصية الثانوية فضلاً عن الرئيسة, كما في شخصيات نجيب محفوظ, الذي أهتم بشخصياته الثانوية، وأعطاها حرية الخوض في العالم التخييلي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة