القص القصير جدا واللحظة المتوهجة في «بئر برهوت»

علوان السلمان

القص القصير جدا الحلقة التي شكلت آخر حصيلة التجريب السردي التي ولدت نتيجة عوامل داخلية وخارجية يأتي في مقدمتها حركة الترجمة ودعوة حركة الحد الادنى الى(كتابة مختصرة لحياة مختصرة)..لذا فهو يترقب اللحظات الحدثية ويتمسك بها ويوظفها ليخلق منها نصا مغلفا بلغة موحية، مكثفة العبارة، موجزة التعبير تمتاز بحركيتها الدينامية اضافة الى الاختزال الجملي والحذف والاضمار مع ابتعاد عن الاستطراد الوصفي واعتماد ما هو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي، مع اعتماد الضربة الاسلوبية الادهاشية المفاجئة.
وبتفكيك وتحليل المجموعة القصصية (بئر برهوت) التي نسجت عوالها السردية ببناء اسلوبي قصير جدا انامل القاص جابر محمد جابر واسهمت دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع في نشرها وانتشارها/2021..لاتسامها بالعمق الدلالي وسعة الخيال مع اقتصاد في اللغة وابتعاد عن الاستطراد الوصفي باعتماد التكثيف والاختزال الجملي،فضلا عن اعتمادها عبارات مركبة تكشف عن دلالات ومعان بقصدية منتجها.
(اختبأت في دهاليز عينيها بعد ان تسلقت سلالم شعرها الفاحم. ودون خجل من كبريائي أوقدت جمرة العشق ورحلت أبحث عن نجمة بلا ذنوب..نجمة توقظ مفاتن خيباتي التي تركها القدر تنام اسفل ليلي المكتظ بالشعر والنساء..
لم أتمالك نفسي، خرجت من تلك الدهاليز الغافية على سكة قطار العشاق، ودون ارادة من وجعي أمسكت النجمة متلبسة بالجمال، شكرت القدر، ليس لانه انصفني لاول مرة فحسب، بل لانه كان عونا لي في تخطي محنة العشق…) ص7..
فالنص يقوم على الفكرة و المشهدية الحركية بمحمولاتها النفسية والرمزية مع اقتصاد لغوي ومفارقة حادة لافته ومستفزة للذاكرة المستهلكة(المتلقي)..مع اعتماد الحوار الذاتي الذي يجمع ما بين الحسي والنفسي وهو يعتمد (اللغة الموحية لتستجيب لافق التجربة السردية والعاطفة المتوهجة والخيال الممزوج بواقعها)..مع تلوين فضاءاته بمسحة من الانفعالات الوجدانية.. فضلا عن توظيف المنتج (السارد) للافعال الحركية(اختبأت/ تسلقت/ اوقدت/ رحلت…) والحسية(توقظ/ تنام/ امسكت..)..لتسريع السرد..فضلا عن توظيفه اللغة الموحية بالفاظها والتكثيف الجملي والاختزال الحدثي..
(وحدها الشمس لا حقته بأشعتها الحارقة..مشى خطوات واذا صوت ينادي.. يهتف.. ياعبدالله.. يا عبدالله..توقف لقد رحل الجميع للبحث عن الحقيقة وأنت أول من أدركها.. لم لا تبوح بها.. جاهر بها ليسمعك الاخرون..هم ينتظرون الخلاص.. الوطن يغرق في بحر من الدم والظلام..يا عبدالله..يا عبدالله…الا تحب وطنك؟ارجع لنا الحقيقة..التفت اليهم ومضى في سبيله..)ص52
فالنص باسلوبه الحكائي يصور ما آلت اليه الحياة واختلاط القيم وهيمنة المتناقضات وضياع الحقيقة في عصر المفارقات التي سادت ولم يعرف لها نهايات،فكان البحث عن المنقذ المتمثل في الرمز(عبدالله) الذي شكل بؤرة السرد النصي المتوهج بطاقته الاشعاعية الخلاقة وقدرته على توليد المعاني جراء الاختزال والايجاز والتوكيد والاهتمام بالمعنى المتفجر داخل الحدث بتوظيف تقنية التكرار الاسلوبية التي تحمل في جنباتها دلالات نفسية وانفعالية تفرضها طبيعة السياق النصي،اضافة الى انه يضفي نبضا جماليا وفنيا وثراء دلاليا،اسهم في ايصال فكرته للمتلقي واستفزاز ذاكرته لاستنطاق ما خلف مشاهده،المتجاوزة للمسافة بين المألوف الى بؤرة الخلق والابداع الادهاشي،بتوظيف زاوية الرؤيا التي يحققها المنتج لحدثها..
(ذات يوم سمعت زوجتي تشتمني لانني تركت لها حملا ثقيلا من الاولاد الصغار. أتعبوها فعلا، ليس بطلباتهم فحسب بل بمشاكساتهم والاعيبهم الصبيانية..
ترى ما عساها تفعل وقد قدر لها ان تكون ارملة دون سن الثلاثين وتأخذ دورين في الحياة..
في اليوم التالي انتبهت العائلة الى أن صورة أبيهم الشهيد لم يبق منها الا الاطار معلقا على الجدار..وقد غادرت الصورة الى اللامكان..) ص66..
فالنص يقوم على الحكائية والتلميح والاقتضاب والجمل الفعلية الحركية اضافة الى اعتماد المنتج على تقنيات فنية كالالفاظ الموحية والانزياح والمفارقة والترميز مع اعتماد الفعل المحرك لعوالم النص المتنامي وفق التغيير الذي تصنعه الشخصية السردية.
وبذلك قدم السارد نصوصا تميزت بتنوع بناءها السردي واشتغالها على تيمات حكائية محتضنة للفكرة والحدث للتعبير عن رؤية مرجعية ومعرفية منتزعة من الواقع الاجتماعي،باعتماد لغة استعارية موحية،مع استناد على الانزياح اللغوي وبناء سردي ينتمي الى السهل الممتنع،مع خواتيم تنحصر وظيفتها في توفير المفارقة بهدف تحقيق الادهاش،مع استغراق في اليومي والغوص في عمق الاشياء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة