أتاح التخلف الذي تعاني منه المجتمعات العربية للنخبة أن تفكر وتكتب وتبحث بحرية، وتغربل علوم الدين والتراث والتاريخ دونما حرج. وتخرج بحلول ونظريات واستنتاجات مختلفة. ففي هذه المجالات الكثير من الثغرات التي تغري بالوقوف عندها طويلاً.
وفي العادة تمنح اللغة العالية هذه البحوث قدراً لا يستهان به من الرصانة. وتجعلها محط أنظار الأجيال في كل مكان. ولأن العالم يسير بشكل متسارع يصعب اللحاق به، فإن الهوة التي تفصل العرب عن باقي شعوب الأرض تزداد اتساعاً كل يوم، وتزداد معها المخاوف من انحسار الوجود العربي على خارطة العالم.
غير أن الواقع يشير إلى أن جل هذه التحليلات غير دقيقة، أو أنها محض خيال. فليس العرب وحدهم الذين يعانون من هذه المشكلة التي أوقعهم فيها الغرب، بل تشترك معهم فيها شعوب أخرى ذات أعراق وأديان وثقافات مختلفة. كما أن الأمم التي تخطت عتبة التخلف وتحولت إلى نمور متقدمة، أو شبه متقدمة، لم تنشغل بالبحث في التراث والعقيدة والحداثة وما بعد الحداثة. لكنها استنسخت تجارب الغرب في الزراعة والصناعة، وباتت قادرة على الاعتماد على الذات. ثم شرعت بتطوير قاعدتها الصناعية، حتى تمكنت من غزو الأسواق الغربية في عقر دارها.
في مرحلة ما نعى الباحثون العرب على بلدانهم أنها تهتم بالدراسات الإنسانية بالدرجة الأولى. وتقوم بإنشاء كليات للغات والآداب والقانون والشريعة بدلاً من العلوم والهندسة والطب والصيدلة. وتهمل التعليم المهني إهمالاً شبه تام. غير أن الآية انعكست فيما بعد، وتكاثرت الأقسام العلمية وازداد عددها بشكل كاف. لكن شيئاً لم يتغير في أحوال العرب، ولم يتقدموا إلا خطوات قليلة. وقد وجد عدد كبير من الخريجين طريقه إلى الدول المتقدمة، تاركاً بلده يعاني المتاعب إلى غير ما رجعة. ففضلاً عن عدم توفر أجواء مناسبة للابتكار، فإن عدداً كبيراً منهم أعيته البطالة، أو العمل في مجالات أخرى. وخلال ذلك لم تتوقف البحوث النظرية لحظة. وفي كل مرة يجد الباحثون ألف سبب لعجز بلدانهم عن اللحاق بالأمم الأخرى. وكانت آخر هذه الاستنتاجات غياب الديمقراطية، والانفصال بين السلطة والجماهير، وتهميش الكفاءات، واستبعاد الأقليات، وغير ذلك من الدعاوى التي نسمعها كل يوم. فلما ثارت الشعوب العربية على الفساد والفاقة والبطالة، وقررت أن تلج النظام الديمقراطي على الطريقة الغربية، وتنبذ الاستبداد السياسي، وحكم العسكر، ألفت نفسها في متاهات لا أول لها ولا آخر. ودخلت في فوضى وانفلات أمني. وتكاثرت فيها الأحزاب والمنظمات ومراكز القوى. وبدأت في الانشطار إلى دول وأقاليم وإمارات. وغرقت في الفساد ونهب الثروات والطائفية. أما التقدم الذي كان تبشر به النخبة فكان مثل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!
إن الحل السحري لمشاكل الشعوب لا ينهض به الباحثون والأكاديميون وعلماء الاجتماع، بل العاملون في الحقول والورش الصناعية والشركات، لأن هذه هي الأماكن التي تخرج منها الكفاءات الحقيقية، القادرة على الإبداع والإنتاج والتغيير!
محمد زكي ابراهيم