انتصار النعيمي
آخر ما وقع بصرها عليه وهي تغادر العالم وتدخل الى هذه الزنزانة ربما الى الأبد، هو قفل ومفتاح وباب يوصد، يغلقه عليها رجل وينتهي الأمر الى الأبد، لا رحيل من هنا لا مناص، سأبقى هنا لن أغادر هذا المكان ..يبدو ذلك جليا…
ثمة جدران صماء لا صوت لا ضوء لا شبابيك كيف ارتضيت لنفسي أن تكون هذه نهايتي؟
بعد أن لملمت أوصال خوفها ورعبها وتيه حل بها وهي خارج هذا المكان، تذكرت أنها كانت خائفة وهربت من كل شيء والتجأت لأول باب فتح لها، كانت هلعة من خوف يطاردها من حكاية مزقت روحها ،من حب لم يكتمل ،خذلها ورحل، فارتأت أن تهرب، لترتمي بأحضان بديلة، تلقتها على عجل وأوصد الباب خلفها بحب، لكنها لم تكن تعلم أنها دخلت الى زنزانة إقامتها الأبدية، وربما كانت تعلم..
لكن الألم كان أكبر من أن يجعلها تفكر أين سترمي أحزانها وكيف ستشيع غاياتها وأهدافها وآمالها الى المثوى الأخير، تنتظر وتنتظر ما الذي تنتظره؟ إنها روح تزهق كل يوم والزمن يمر، تستنزف كل الآمال والصبا والجمال والقوة والزمن يمر..
كل شيء أصبح مجرد ذكرى من ذلك العالم القديم، حتى الذكريات باتت باهتة على جدران هذا المكان المعتم، الذكريات تمحى بذكريات أحدث، حتى أصبحت الذكرى مجرد ذكرى لا وجود لها.
انتهى كل شيء، إنه الموت يدرج حثيثا نحوها، وهي تتراجع الى الخلف كلما اقترب، حتى ضاق بها المكان، وأصبحت لصيقة الجدار البارد الرطب القاسي، لم يعد المكان يتسع لأي شيء والموت يزحف وهي تلتصق بآخر جدار يقف خلفها، لم يكن أمامها سوى حل واحد بعد أن صار عصيا عليها الوصول الى ذلك الباب، للاحتيال على السجان أو كسر قفله أو فتحه، حتى وإن كان غير مغلق فقد صار بعيدا عنها كبعد زمن آخر، لا تستطيع الرحيل اليه دون آلة للزمن، يستحيل الحصول عليها.
كان الحل أن لاتستسلم للموت، وأن تدير وجهها عنه لجهة الجدار، وتنسى أمره قليلا، ربما ستعيش كل لحظة أضعافا مضاعفة فقط إن التفتت ولم تواجه الموت بالانتظار، فكانت الفكرة أن تتخيل أن هنالك شباكا في جدار الزنزانة، شباكا يدخل النور، الفرح، الجمال، الموسيقى، قصصا وحكايا، تسمعها بصوت رجل تحبه كل ليلة قبل أن تنام، وحين التفتت لم يكن الأمر خيالا، بل كان حقيقة تبعث النور والدفء من خلال شباك يعبق بالضوع ليلا ونهارا.
انتابها الفضول والحيرة والخوف والقلق وكل شعور يجعلها تعلم أنها مازالت على قيد الحياة، نعم إنها الحياة التي تمثلت لها بكل نور هذا الشباك، تاهت حبا وشغفا و نسيت امرا ما خلفها تماما، بل أصبحت الزنزانة جنة غناء حين تسرب من الشباك فيض من نور تمثل لها بشكل رجل كما صوره لها خيالها، كما أحبت روحها أن تراه.
تسلل إليها خفية وشرع يداعب كل حواسها حتى عاشت الجنة معه وهي بتلك الزنزانة، يحيطها الموت من كل مكان، لكن هيهات أن يتمكن منها بعد اليوم، فها هي قد ذهبت الى الجنة فما حاجتها للموت وقد اجتازته وقفزت لما بعده.
كيف يمكن للسعادة أن توصف وهي مع كل هذا النور وهذا العطر حتى ظنت أن لافراق، وأنها لن تصحو من حلمها هذا، ونسيت أن الأحلام قصيرة، قصيرة كأعمارنا.
وعلى حين غفلة كما اعتادت الحياة أن تتصرف بأقدارنا، غاب طيفها الجميل عنها واحتجب في ركن بعيد عن سجنها، كادت أن تقتل نفسها توسلا به أن يعود، لكنه كان مغمض العينين ولايعيرها سمعا مصرا على الغياب و يقف خلف الشباك كأنه لا يراها ولا يعلم شيئا عنها، فعاد كل شيء لما كان عليه قبل مجيئه، عادت الروح مظلمة، وغادر الفرح وظلت ترقب الشباك بانتظاره أن يطل مرة أخرى.
من بين لحظات اليأس تنبت زهرة، من أشواك الصبار القاسية، وتمتد من الشباك يد، يد رجل قوي يحثها للخروج من الزنزانة، لم يكن حلما هذه المرة ولم يكن طيفا ولم يكن الشباك وهما، بل تحول كل شيء لحقيقة وواقع ما عليها سوى أن تمد يدها وتمسك بيد ذلك الرجل لتخرج من هنا، تمسكت به وتطلعت اليه بقوة وسعادة هل ترفض الخروج الى النور والحرية والحياة لأنها ترفض ان تغادر مكانا قد يعود اليه ذلك الطيف الذي أنقذها من كل شيء بأول الأمر، وصار هينا عليها أن تتحمل سجنها وألمها وعذابها فقط ليعود إليها،
حتى الموت أصبح رفيقا طيبا، يدنو منها ببطيء شديد، كأنه يرقب نهاية تلك الحكاية، ولا يريد أن يفوته الفصل الأخير، تمسكت به بقوة وحزم وهي بالرمق الأخير ومازالت تفكر هل أقفز إليه وأتخلص من سجني ومن الموت الذي يحاصرني ويهدد ساعاتي؟
أم أبقى بانتظار سعادتي التي ربما ستعود يوما؟