إيليا أبو ماضي: الطلاسم

برز اسم الشاعر إيليا أبو ماضي (1889 – 1957) بين شعراء المهجر بنزعته الفلسفية التأملية، وبامتلاء شعره بالأسئلة والبحث عن الحقيقة، وبذهابه مذهبًا قصصيًّا في غالب الأحيان، ضمن إطار ينظر إلى الحياة نظرة إيجابية متفائلة.
ولد أبو ماضي في قرية المحيدثة بالقرب من بلدة بكفيا في لبنان، ثم غادرها في سنّ الحادية عشرة إلى الإسكندرية عام 1900، وظل يعمل بمصر في التجارة ويكتب الشعر وينشره في الصحف المصرية حتى اكتملت لديه مجموعة من القصائد، فجمعها في ديوان طبعه بعنوان «تذكار الماضي»، وفي عام 1911 هاجر إلى الولايات المتحدة، أطلق هناك مجلة سماها «السمير»، صارت فيما بعد جريدة يومية، وحين التقى بأدباء المهجر من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة أسّسوا الرابطة القلمية في 1920، وكان أبو ماضي أحد أعضاء الرابطة القلمية البارزين.
من المجموعات الشعرية التي كتبها: تذكار الماضي 1911، الجداول 1927، الخمائل 1940، وجمعت كلها في ديوان واحد.
قالت عنه الشاعرة نازك الملائكة: «لعله ليس كثيرًا أن نحكم بأن إيليا أبو ماضي قد كان أول من جدّد القصيدة العرية بالمعنى الذي نفهمه اليوم من التجديد، حتى ليستطيع الناقد الأدبي أن يؤرخ به ميلاد فترة جديدة في الشعر العربي».
قصيدة الطلاسم التي نختار بعض مقاطعها هي قصيدة مبنية على طريقة الرباعيات سيرًا على نهج عمر الخيّام. وقد ملأ أبو ماضي هذه الرباعيات بالشك والحيرة واللايقين، ومن هنا جاءت اللازمة المتكررة «لست أدري» علامة على أنه من أنصار مذهب الشك، ومن المعروف أن القصيدة تتفجر الأسئلة الوجودية في القصيدة حتى تكاد تكون خلاصة كل التساؤلات الأساسية التي يعيش البشر بحثًا عن إجابة لها.
بقي أن نشير إلى القصيدة غناها مطربون كبار من أمثال محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.


جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قُدّامي طريقًا فمشيتُ
وسأبقى ماشيًا شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرتُ طريقي؟
لست أدري!

أجديد أم قديم أنا في هذا الوجودْ
هل أنا حرٌ طليقٌ أم أسيرٌ في قيودْ
هل أنا قائدُ نفسي في حياتي أم مقودْ
أتمنّى أنني أدري ولكن
لست أدري!

وطريقي ما طريقي أطويلٌ أم قصير؟
وهل أنا أصعد أم أهبط فيه أم أغور؟
أأنا السائر في الدرب أم الدرب يسير؟
أم كلانا واقفٌ والدهر يجري؟
لست أدري!

أتراني قبلما أصبحتُ إنسانا سويا؟
أتراني كنت محوًا أم تراني كنت شيئا؟
ألهذا اللغز حل أم سيبقى أبديا؟
لست أدري، ولماذا لست أدري؟
لست أدري!

كم فتاةٍ مثل ليلى وفتىً كابن الملوّحْ
أنفقا الساعات في الشاطئ، تشكو وهو يشرحْ
كلّما حدَّث أصغتْ وإذا قالت ترنّح
أحفيف الموج سر ضيعاه؟
لست أدري!

إن في صدري يا بحرُ لأسرارًا عجابا
نزل السِّتر عليها وأنا كُنت الحِجابا
ولِذا أزدادُ بُعدًا كلّما ازددتُ اقترابا
وأُراني كلمّا أوشكت أدري
لست أدري!

قيل لي في الدير قومٌ أدركوا سرَّ الحياةْ
غيرَ أني لم أجدْ غيرَ عقولٍ آسناتْ
وقلوبٍ بليتْ فيها المنى فهْيَ رفاتْ
ما أنا أعمى فهل غيريَ أعمى؟
لست أدري!

قيلَ أدرى الناسِ بالأسرارِ سُكّانُ الصوامعْ
قلتُ إن صحَّ الذي قالوا فإنَّ السرَّ شائعْ
عجبًا كيف ترى الشمسَ عيونٌ في براقعْ
والتي لم تتبرقعْ لا تراها
لست أدري!

إن تكُ العزلةُ نُسكًا وتقىً فالذئبُ راهبْ
وعرينُ الليثِ دَيرٌ حُبُّه فرضٌ وواجبْ
ليت شعري أيميتُ النسكُ أم يُحيي المواهبْ؟
كيفَ يمحو النسكُ إثمًا وهْوَ إثمُ؟
لست أدري!

أيها القبر تكلم وأخبريني يا رمام
هل طوى أحلامك الموت وهل مات الغرام؟
من هو المائت من عام ومن مليون عام؟
أيصير الوقت في الارماس محوًا؟
لست أدري!

إن يك الموت رقادًا بعده صحو جميل
فلماذا ليس يبقى صحونا هذا الجميل
ولماذا المرء لا يدري متى وقت الرحيل
ومتى ينكشف الستر فندري
لست أدري!

إن يك الموت هجوعًا يملأُ النفس سلاما
وانعتاقًا لا اعتقالًا وابتداءً لا ختاما
فلماذا اعشق النوم ولا أهوى الحماما؟
ولماذا تجزع الأرواح منه؟
لست أدري!

أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور؟
فحياة فخلود أم فناءٌ فدثور؟
أكلام الناس صدقٌ أم كلام الناس زور؟
أصحيح أن بعض الناس يدري
لست أدري!

*عن ألترا صوت

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة