تيار الزمن ..داخل العقل البشري

أوس حسن

 
يرتبط الألم الإنساني ارتباطًا وثيقًا بالزمن النفسي، والزمن له علاقة بالعقل، فالزمن في العقل البشري يسري كتيار كهربائي بين الماضي والمستقبل، فلا وجود للحظة الحالية الراهنة داخل نطاق التفكير اليومي، وقد يصاحب هذا التفكير إيحاء قوي للسلوك وحركات الجسد، تشي بحالة الإنسان ومشاعره المتصارعة، فعندما يكون الفكر أسيرًا للماضي؛ يبدو على الإنسان الانكسار والإحباط والندم، وعندما يكون أسيرًا للمستقبل؛ تبدو عليه حالات التوتر والقلق والخوف من المجهول.
اللحظة الراهنة هي لحظة سحرية سرمدية تموت فيها «الأنا» المتحررة من الرغبة، لحظة ترى الجمال الذي كان غائبًا عنا في أبسط الأشياء وأكثرها دقة، لحظة يتلاشى فيها التفكير وتقترب النفس من الحقيقة وغموضها الساحر. إنها تشبه حالة السكينة التي تصيب النفس بعد نوبات البكاء الغزير، علينا أن ندرب أنفسنا على الفقدان وأن نؤنسن حزننا وشقاءنا بعيدًا عن التذمر والشكوى وصناعة المحاكمات العقلية.
قبولنا للحظة الراهنة يتم تدريجيا في اللاوعي عن طريق التسليم وعدم المقاومة، والسعادة العميقة تأتي من التسليم لهذه اللحظة في السراء والضراء، فقبولنا للألم والوقوف على حافة الخطر هو من سيمنحنا ذلك الفرح الغامض في ما بعد. لا سعادة بلا ألم، والألم قد لا يكون ألما كما يظنه البعض بقدر ما يكون حالة ذهنية يكونها العقل ويرسم لها تصورات عديدة. إن التركيز الداخلي وتكثيف الأحاسيس الإنسانية كي تتماهى مع جمال الأشياء وسحرها في هذا الوجود؛ يتطلب منا الابتعاد عن تفاهة الحياة اليومية وروتينها الذي قد يصبح مركزًا يعطل قيمة هذه الحواس واتصالها مع الكون. لقد غابت هذه اللحظة السرمدية عن الكثير من الناس، ولم يعرفوا لذتها، إلا وهم على سرير الموت أو عندما اقتربوا من تجربة الموت. فلم يعد هناك متسع للتفكير بالماضي والمستقبل ولا بممتلكاتهم وإنجازاتهم، وإنما إدراك عميق للحظة واحدة فقط، لحظة تعطي للحياة معنىً خالدًا. لماذا لا يموت الإنسان كل يوم كي يعيش هذه اللحظة، ويقتل هذه الأنا المتعالية المتفننة في صناعة الوهم والخوف والعنف. 
إن تعاسة البشر تكمن في أوهامهم التي شيدوها على مر تاريخهم، فكل الإنجازات الخارجية والانتصارات والأمجاد التي حققوها؛ لن تساعدهم على عدم الوقوع في فخ البؤس والوجع الداخلي. الإنسان الذي يمتلك الأشياء ويجعلها جزءًا من هويته وكيانه يصبح عبدا مطيعًا لها.. (كالأفكار، والمعتقدات، والثروة، والشهرة والمناصب).
والمجتمع الذي تتشكل منه هذه الهويات وتتلاعب في وعي الناس ومسار حياتهم هو مجتمع قادر على صنع الطغاة في كل زمان ومكان، وهو الجلاد الذي يقتل عفوية الأطفال والمجانين ويعاقبهم بالنبذ أو تعزيز شعورهم بالذنب. يولد الطفل زهرة بيضاء متناغمة مع إيقاع الكون، وما إن يكبر حتى يتلوث بخطايا وقذارة هذا العالم المدان. واستعادة براءتنا المفقودة يتطلب منا التحرر من المعرفة والتاريخ والأسرة والمجتمع والدين. والنفس الإنسانية لا بد أن تتخلص من نزعاتها البدائية الوحشية من خلال تهذيبها   والبحث عن عزلة منتجة تسمو عاليا بهذه الروح المقدسة.
إن الإرادة الإنسانية أخرجت الإنسان من أعماق ظلمة الكهوف إلى سطح القمر، وقوة خياله الجامح أنتجت لنا العديد من الإبداعات والابتكارات في العلم والفن، والإنسان منذ وجوده على هذه الأرض إلى يومنا هذا ما زال يبحث عن الحقيقة وعن مسوغ وجوده ورسالته السامية خارج عالمنا المادي المحسوس. 
عد إلى ذاتك قليلًا وتأمل اليوم الذي تعيشه من إشراقة الفجر الذي يثير فيك الرهبة والعظمة إلى غروب الشمس التي تمتص أوجاعك وانكساراتك، إلى الليل الذي ينثر سكينته على نفسك لتحلق عاليًا بأحلامك مع النجوم؛ سترى نفسك كوكبًا يضيء عتمة العالم وصدى لصوت القادمين من بعدك. وأنت ترحل في قاربك وتتوارى بعيدا عن الأنظار لا تنس أن تترك لنا رسالتك، فالإنسان هو المعجزة الوحيدة والمحيرة في هذا الوجود، والحياة على الأرض ملحمة كبرى تستحق أن نحياها بكامل تناقضاتها وغرائبها ومصائرها المجنونة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة