هدى الهرمي
ان مشكلة المثقف هي من اعمق وأشد المشاكل التي تعانيها مجتمعاتنا، فهي تكشف عن ازمة تكوين المثقف وتشكيل الفكر و الثقافة والعقل في العالم العربي.
من هو المثقف ؟
سؤال يُطرح ليتمّ تعريف وتحديد الصورة الحقيقية بعيدا عن الخلط والغوغاء، وسط كل التحولات الإقليمية التي تشهدها المنطقة العربية منذ عقد من الزمن.
المثقفون حسب تعريف المختصين، هم كتلة الوعي الفاعل في المجتمع واحد أهمّ مصادر قوته وتاثيره وتدبيره، نظرا لما يعكسونه من خصائص المعرفة والفكر، مُحطمين القبح والجهل. فنحن ازاء عقول نابضة بالحيوية والتحدي، تتخطي الرموز والافكار الراكدة لتغدو منهج ووجهة نظر واسلوب تصوّر تُغذيها الخبرة والتفرد. لكن يظلّ في المفهوم الاصطلاحي هو الناقد الاجتماعي، مهمته ان يحدّد ويحلّل و يعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف امام بلوغ نظام اجتماعي افضل. وفي تعريف المُثقّف ككلّ، رصد صورة للمفهوم العام في الثقافة العربية الحديثة.
في هذا الصدد يقول الفيلسوف الايراني داريوش شايغان
«المثقفون يبدون محاربين أكثر من هم مفكرين يتأملون بهدوء وراء طاولات عملهم».
اما الثقافة فيُعرّفها المستشرق النمساوي غوستاف فون جرونباوم في كتابه عن هوية الاسلام الثقافية بما يلي:
«انها نظام مغلق من الاسئلة والاجوبة المتعلقة بالكون و بالسلوك الانساني».
لكن ما نلاحظه في الحقبة الاخيرة، يُظهر جليّا تلك العلاقة المُعتلّة بين المثقف مع مجتمعه، وعدم نجاعته في احداث خطوات فارقة لايصال صوته ووضع بصمته في ركب الحياة عامة. فنحن نرصد عزلته وعجزه عن ادراك التحديات و التغييرات التي تمرّ بها الأمة العربية، وتملصه من اعباء «المواطنة» والسعي الى الحرية الخلاقة. كما لا يتورع في انتقاد العطب السياسي والاجتماعي وتبني قضايا وطنية عادلة وانسانية، ليغرق احيانا في التبعية و يجتر المناورة متعللا بالاخفاقات والنكبات القومية. الأمر الذي جعل فئة من المحللين تٌحمله مسؤولية كلّ الازمات الراهنة.
ورغم مشاهد التواجد لمثقفين وكٌتاب عرب في منصات أدبية، تلقي الضوء عليهم وعلى نتاجهم الفكري والثقافي الغزيز ( روايات، قصص، مسرحيات، شعر، نقد، مقالات، حوارات…الخ) لكنها لا تبرز كل الحقيقة، بل تكاد لا تخلو من الاستفزاز الذي يُروّج لاهداف ما، وتظلّ نمطيّة دون ان تتجاوز تلك التحديّات المناطة بعهدته. من جهة اخرى وجد المثقف العربي نفسه مُكّبلا بانظمة وايديولجيات تعيق تأثيره الملموس في سائر الحركة الثقافية او بالأحرى التوعوية.
لكن حسب اراء بعض الباحثين، فهو مطالب بحراك مع تفعيل منظومة كاملة للفكر المعاصر، لصقل التقارب والتحاور مع الآخر، في ظل تمازج مع الزمان والمكان ومجريات الاحداث المحلية والعالمية.
على ضوء ما جاء آنفا، أضحى المثقف متوجّسا من شيوع العولمة وثقافة الاستهلاك، باعتبار وجوده الضئيل امام سطوة معايير ثقافة جديدة جارفة، تُبطل ضراوة تأثيره واهميته، رغم ان بعض المثقفين جسّدوا حالة نضالية فارقة، فكانوا في طليعة المجتمع، بارزين في المشهد الثقافي والاجتماعي على حد السواء.
لكن من المؤسف حقا ان يقبل بعض المثقفين العرب بتوزيع ولاءاتهم، لتغذّي خلافات الانظمة واصحاب النفوذ، رغم ان البعض الاخر حاول التغلّب على الواقع المأساوي بمشاريع اصلاحية تهدف الى الخروج من هذه الازمة الضيقة، لكن باءت مشاريعهم بالفشل. الامر الذي أدّى الى تخلف حضاري لم تعرفه الامة العربية على مرّ العصور.
هذا الأمر عبّر عنه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد قائلا :
«من الممكن تقسيم المثقفين الذين عاشوا أعمارهم كلها افراد في مجتمعهم، الى المنتمين واللامنتمين بصورة ما «.
فهل يشترط للنهوض الحضاري وجود ثقافة عالمية انسانية ذات خصائص محددة ؟
ان الغزو الثقافي والسياسي الغربي شلّ الإمكانيات الداخلية الذاتية التي أدّت الى انفلات واضح وطمس للمعايير الحقيقية ، بالهروب الى الثقافة الغربية، مما جعل بعض المثقفين العرب يلقون أسباب أزمتهم وازمة ثقافتهم على السياسين واستبدادهم.
في هذا السياق وجّه المفكر اللبناني علي حرب نقدا لاذعا للمثقف العربي وانطلق في هجومه من مقولة « ان المثقف يسعى من خلال عمله الفكري والتنظيري الى توظيف سلطته العلمية والمعرفية لزيادة نفوذه الاجتماعي».
مثلما يعزو الدكتور لؤي صافي عجز المثقف عن التأثير في محيطه وتطوير ثقافة مجتمعه، الى طبيعة الحلول التي يقدمها والتي لا تتوافق مع طبيعة المشكلات التي تمرّ بها الشعوب العربية في الوقت الحاضر.
اذا، فالتفاعل الفكري المُنعش للثقافة، مرتبط اساسا بالتقارب والتواصل ومرهون بالمعترك الفعلي للثقافة والفنون ، وبما يدور فيها من فكر حراك. وللمجلات الثقافية دور مهم في الانعاش الفكري، كما تطرقت الى ذلك الاعلامية الامارتية عائشة مصبح العاجل في قولها « انه حين يتم الاعلان عن ولادة مجلة ثقافية فهي ولادة حقيقية لحياة يتنفس من خلالها المثقف، ويطلق حمامات فكره في فضاء يشعّ بالتجديد، مخاطبا العقول ومشركا طيوف الارض لتدور في فلك التكوين الجديد للخطاب المتسامي مع النور والتنوير».
فاذا كانت المجلات الثقافية تعمل على افراز مكونات جديدة تواكب زمن التحولات المتسارعة، وتجعل من المثقف متمرسا اكثر في تدوين مطارحات واقعية شبيهة بالبيئة التي تندفّ منها شواغله المعاصره، اذ يسعى جاهدا لجعل هذا المفهوم يتجذّر في معالم الواقع المحيط به وما تختزله الذاكرة الشعبية من مشاهد وترسّبات يومية، منطلقا من ذاته كفاعلة في المجتمع، لترسم مجالا فكريا ينخرط في السياق العام، بفتح الابواب امامه وخلق فضاءات تفضي للعطاء والتخاطر من خلال الحوارات الاعلامية والمنتديات الفكرية، لتعكس انفتاحا وتقبلا للآخر، وما يولده ذلك من تكوين التفكير واعلاء لشأن الثقافة بصفة عامة.
من خلال هذه الاشارات، وبمنأى عن التحسر، لنا ان نتساءل هل للمثقف المعاصر دور طلائعي، وقدرة على المقاومة واماطة اللثام عن الحقائق، وكشف الأوهام الطوباوية، ليصبغ على المجتمع فسيفساء فكرية وحرية ؟