الواقعية المشهدية في(صرخة من ذاكرة امرأة)

علوان السلمان

السرد الروائي بناء تركيبي منظم الاجزاء المشهدية والافعال الشخصانية برؤية جمالية تهيمن عليها ارادة وعي المنتج التي تراقب التجربة ومناخاتها الدرامية المتسائلة..
و(صرخة من ذاكرة امرأة)..النص السردي الذي نضحت عوالمه ذاكرة منتجه الروائي حسن الموسوي، ونسجتها انامله، واسهمت دار النخبة في نشره وانتشاره/2020..كونه نص يوظف الذاكرة في سرد الاحداث وتداعي الافكار من خلال مزجها ما بين الخطاب السردي والحدث المكاني والحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي) بلغة يومية وسردية حكائية متداولة، ابتداء من العنوان العلامة السيميائية والمكون النصي المركز على الأطر الاجتماعية والفكرية والنفسية وهو يتكىء على بنائين متداخلين: اولهما البناء اللغوي القائم على جملة اسمية مضافة،وثانيهما البناء التركيبي الذي(يقول الكثير بكلمات قليلة)على حد تعبير فيثاغورس، وانفتاحه على دلالات تعبيرية، واقعية، يكشف عنها المتن النصي.. اضافة الى الاهداء (النص المصاحب) بتعبير جيرار جنيت (الى شخصيات روايتي الذين اصبحوا من اليوم من اعز اصدقائي..)
(في خضم الاحداث المتسارعة نشب صراع هائل ما بين عقلي الذي يخبرني بأن ابني قد تم قتله بعد اختطافه.. وقلبي الذي يرفض الاقرار بذلك.. آه من كلمة ماتت من قبل ان ابوح بها..ابني…ابني..(يا بعد عيني ييمه)..
بعد لحظات من الترقب والهواجس المخيفة تسللت الى فراشي، أمسكت بجهاز المذياع أنيسي في وحدتي،أخذت اقلب محطاته متنقلا ما بينها لأستقر عند محطة اذاعة جمهورية العراق من بغداد،شدني ذلك الصوت الشجي صوت المطرب (حميد منصور) وهو يغني (سلامات)، وشدني اكثر ذلك المقطع الذي يقول فيه:
(تجينه..تجينه..ردتك تجينه../راحت وجت لايام..راحت وجت لايام..ردتك تجينه../علينه..علينه..بس مر علينه../وتورد الاحلام..من تمر بينه..)..
وبقلب مكسور اصغيت لتلك الاغنية لتكون رصاصة الرحمة على ذاكرة امرأة عجوز أثقلها الزمن بالمواجع،بعد لحظات من المعاناة والتحسر اطلقت العنان لدموعي وانا اردد: (عمت عيني عليك ييمه) ص14ـ ص15ـ ص16…
فالنص يتناول تفاصيل حياتية واقعية ووجدانية بتراكيب فنية تتداخل فيها القيم والافكار والمواقف المستندة على الثنائيات اللغوية (الموت / الحياة) و(الغياب/ الحضور..)..مع تجاوز النظام الزمني محاولا كسر رتابته بتوظيف تقنيات فنية كالاسترجاع والتذكر،من اجل منح النص حيوية حركية تلازمه وتنوع المكان(البؤرة الثقافية)..اضافة الى اضفاء النزعة الدرامية على النص ومنحه قدرة التأثير في وجدان المستهلك(المتلقي)،حتى انه جعل منه رابطا بنائيا لأجزاء المعمار الفني السردي القائم على لغة معبرة عن الفكرة وحركة الشخوص والحدث المشهدي، فضلا عن توظيف المنتج(السارد) تقانات فنية واسلوبية كالتكرار الدال على التوكيد باسلوب لغوي كاشف عن الجوانب النفسية من جهة واضفائه حس مموسق على امتدادات جسد النص،مع توظيف اللفظ الشعبي(يابعد عيني ييمه) والاغنية الشعبية الدالة بألفاظها…واهمية هذا تكمن في التعبير عن الواقع المجتمعي، اضافة الى توظيفه تقنية الحوار خدمة للأحداث والكشف عن دواخل الشخصية..
(في لجة الشك والحيرة وعدم تقبلي لفكرة التكلم مع الاموات توقف الحاج(محمود)عند احد القبور واخذ يتكلم مع نفسه بكلام مبهم حتى خيل الي انه فد فقد عقله..بعد ان انهى تلاوته للادعية.. عطف برأسه جهتي وقال:يقول صاحب القبر انه كان ينوي الانتهاء من بناء داره الا ان الموت اختطفه قبل تحقيق امنيته..
بعد انتصاف النهار سرنا معا،وبعد قليل طلبت من الحاج(محمود)ان ننعطف الى جهة اليسار، حين وصولنا الى ثلاثة قبور بنيت حديثا لم اتمالك نفسي.. هويت عليها كالمجنون وبقيت حائرا من أي قبر ابدأ بقراءة زيارة اصحاب القبور، التفت الى الحاج(محمود)..الذي وقف جامدا بالقرب مني..
ـ انهم اولادي ياحاج، فقدتهم في يوم واحد.. ارجوك تكلم معهم وبلغهم سلامي وقل لهم بأن رحيلهم قد كسر ظهري..
بخطى متثاقلة اقترب الحاج(محمود) من تلك القبور واخذ بقراءة الادعية.. والتكلم مع احدهم بلغة غير مفهومة. وحين انتهائه تصفح في وجهي مليا وقال: ابنك الاكبر يسلم عليك ويقول ان اخاه الاصغر لم يغادر عالم الاحياء.. وان صحيفته في عالم الاموات ما زالت مطوية ولم تنشر حتى الآن..) ص60 ـ ص61..
فالسارد يسجل اللحظة الحدثية بواقعيتها وشخوصها مكانيا وزمانيا مع اضفاء عنصر الغرائبية بتوظيف عدساته البصرية في توثيق المشاهد وتتبع خطوات شخوصه وهواجسها، ووصف حركاتها وافعالها وحواراتها ،حتى انه لم يقتصر على وصف المظاهر الخارجية للشخصية بل يتجاوزها ويغوص في دواخلها. لذا فالمنتج(السارد)اختار الشخوص المتفاعلة مع الحدث، ولغة يومية وثيقة الصلة بالواقع وشخوصه، اضافة الى توظيف الغرائبية اسلوبا وبناء في بعض مشاهده المستفزة لذهنية المستهلك(المتلقي)..
وبذلك قدم السارد نصا سرديا ميلودراميا تشكل بؤرته(سعاد بهميها الفقد والطلاق) فتستغرق في الرؤية الذاتية لما مضى وهي تلتمس شيئا ضائعا الى ان تجده، اضافة الى ان السارد العليم يكشف عن اتحاد المستوى الموضوعاتي والتقني وكيانات التخييل الغرائبية والواقعية مع درامية تنبثق من حدث اجتماعي صار المنتج شاهدا عليه وكاشفا للأغطية الساترة للمسكوت عنه باتخاذ السرد وسيلة اعلامية مؤطرة للأحداث والشخوص الواقعية زمانيا ومكانيا بوحدة عضوية ونفسية متماسكة تصب في البناء المعماري الفني للسرد..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة