ترنيمة عراقيّة حزينة

عبد الرزاق الربيعي

” لا تستغربوا

مع هذا العدد الهائل من الأعياد

 شعب له كل هذا الحزن “

يقول الشاعر جواد الحطاب، فأردّد معه :

ما أصعب أن تضطرّ لشرح الحزن!

لكن الحزن العراقي لم يأت بصيغة المفرد في (ليالي الحصار ) . الكتاب الذي صدر عن مجلة (الصدى ) الإماراتية 2003، بل جاء على صيغة جمع تكسير في العنوان الثانوي للكتاب (أحزان عراقية ) لتكون متوهجة بالدهشة، والألم، في مبادرة من رئيس تحرير مجلة( الصدى)  الشاعر سيف المري التي كانت تصدر في دبي، وقال في مقدمة الكتاب الذي ضمّ 86 قصيدة لأكثر من أربعين شاعرا من مختلف الأجيال: “نحاول من خلال هذه المجموعة الشعرية أن نوصل رسالة إلى المثقف العربي، حيثما وجد، وهي أن هناك شعبا عربيا بحاجة ماسة إلى وقفة شجاعة منا جميعا، لنشد من أزره، وهو يعبر هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الأمة، ولهذا جاءت قصائده  معبرة عن  آلامه:

” الطفل رأى القمر بثوبه الأبيض

بلحيته البيضاء

فاشتهى الحليب والملائكة

غير أن القنبلة

أركبته طائرة

أمّي  الملائكة أكثر أم الطائرات ؟

-الملائكة طبعا

ألم تقولي ( ملاكان ) على كتفيك ؟

–        هذا صحيح

لكنني أرى فوق رأسي عشرات الطائرات

جواد الحطاب –الصواريخ بحذافيرها ص 24 “

بهذا النفس  الشعري  الطفولي يفسّر الشاعر العراقي  الأوضاع الملتبسة من حوله ضمن مناخ  فيه الكثير من تراجيديا الوضع العربي  المتردي  والتخاذل، لكنه لم يجعله يكسر قلمه، بل راح يدوّن المأساة، وهو الشعب الذي ابتكر التدوين منذ فجر التاريخ عبر اختراع السومريين للكتابة، ولا يكتفي بتدوين الوقائع، بل إنه أخذ يبتكر طريقة فنية تقربه من فهم الأحداث عن طريق الإبداع الفني، فدفعه إلى ” ابتكار لغة خاصّة به تليق بهمومه اليومية، وتشي بعذاباته اللا نهائية من خلال اختراع صياغات فريدة، وصور مدهشة، ومجازات تخاصم المكرور، والرتيب ” كما يقول الناقد والفنان ناصر عراق الذي جمع النصوص، واختار منها المناسب بمساعدة  زميلين هما: الشاعر يحيى البطاط والصحفية إيمان محمد .

ولو تصفّحنا الكتاب الذي طبع بثلاث آلاف نسخة، ووزّع بزمن قياسي في كافة أنحاء الوطن العربي – لوجدنا الحرب هي القاسم المشترك الأعظم  فيها, وأحيانا تشكل خلفية نفسية للنصوص التي  حلق الشعراء بها في مسائل الوجود، عبر تحليقات فنية نادرة  تؤكد أن الشعر جواد عراقي يصهل في تلك الربوع المتاخمة للموت والفجيعة،

وحتى  النصوص الوجدانية لم تخل من مفردة ومن صورة تنتمي الى هذا الجو النفسي المشبع بدخان الحرب وتقارير  مراسلي الموت والجوع والطائرات الأمريكية المغيرة :

” أيها الطبيب

لا تعطنا حبة  لامساك النبض

أعط الطائرات أولا

حبوب إسهال “

كما يقول جواد الحطاب في القصيدة نفسها

 وعندما يحدق الشاعر صفاء ذياب بنجمة ” يذوب الظلام حواليها ” فانه لايرى غير الظلام  ب ” اتكاءاته وكرسيه الوثير على عتبات الشمس

يلتم فيذبح أطفاله , حتى امتلاء الظلام  دما

وهذا الظلام

نجمة ولاشيء سواها “

هكذا يتحول الضوء في ذات الشاعر العراقي إلى غيمة ماطرة بالحزن والظلام والألم كانعكاس طبيعي لتجربته المريرة طوال اكثر من عشرين سنة مع الحرب والحصار والعذاب اليومي المتواصل .

واللافت للنظر أن الكتاب ضم  نصوصا لمختلف الأجيال الشعرية،  ففيه نصوص للشعراء :حسين عبد اللطيف، وزهور دكسن، ومحمد على الخفاجي،  وهم  ينتمون الى جيل الستينات الشعري في العراق، وهناك أسماء عديدة لشعراء ظهرت تجاربهم في السبعينيات، والثمانينيات: كحامد حسن الياسري، وجواد الحطاب، وحامد عبد الصمد البصري، وحطاب ادهيم الفيصلي، ورعد مطشر، وريم قيس كبة، وطالب عبد العزيز، وعلي حسن الفواز، ومنذر عبد الحر، ونصير الشيخ، وفاضل عباس الكعبي، وفائز الشرع إلى جانب أسماء أخرى كفارس شيباني، ومهدي الشبلي وكولالة نوري، وماجد الشرع، ومناضل التميمي، وعلي حبش، وصفاء ذياب، وحسن عبد راضي، وبسام صالح مهدي، وعارف الساعدي،  وأجود مجبل، وأطوار بهجت السامرائي، وحسن عبد راضي، وحسين الهاشمي وحمد الدوخي، وراسم المرواني، ورشيد الدليمي، وخالد  عبد الرضا السعدي، ورياض محمد عبد الوهاب، وأحمد ناهم، وإبراهيم الجنابي، ونوفل أبو رغيف، ونعمان النقاش، ومحمد ناصر الغزي، وماجد الفالح وقاسم زهير السنجري، وعلاء إسماعيل العلاف، وعصام كاظم جري وعلي عطوان الكعبي،  وحاتم حسام الدين، وإبراهيم صالح الجنابي، ومعظم الأسماء الأخيرة نقرأ لها عند صدور الكتاب في ٢٠٠٣ للمرة الأولى – ربما بسبب  العزلة الثقافية التي عاشها مبدعونا في الداخل خلال تلك السنوات – والدليل على ذلك أنها فاجأتنا بتجارب ناضجة وملفتة للنظر, وهناك أسماء جديدة تعلن عن نفسها بقوة لتؤكد أن أرض العراق لا تتوقف عن ولادة الشعراء .

أما لماذا هذا الخلط بالأصوات الشعرية، فالسبب إن وضع الكتاب لم يخضع لاستراتيجية فنية  مسبقة , فقد كانت ولادته عفوية , كما بيّن  معدّه ناصر عراق الذي سافر الى بغداد  لحضور فعاليات مهرجان المربد 2002، وهناك التقى بالعديد من الشعراء العراقيين الذين سلّموه نصوصهم لنشرها في المجلة التي كانت تصل بانتظام الى بغداد, وعندما عاد وجد حقيبته مليئة بالنصوص الجميلة التي تحتاج المجلة إلى سنتين لنشرها بمعدّل قصيدتين في كل أسبوع , وإزاء هذا الوضع وجد مخرجا بجمعها بين دفتي كتاب يكون مبادرة إيجابية من المجلة لكسر الحصار عن الصوت الشعري العراقي على امتداد صفحات الكتاب الـ 122  من القطع المتوسط   نصوصا تشير الى عافية شعرية، رغم الحصار الذي جفّف الضرع، وأيبس الزرع!

ملاحظة: المقال مكتوب في ٢٠٠٣ عندما كانت أمريكا تجيّش الجيوش وتعد العدّة لاحتلال العراق، وبعد سنوات قليلة فقدنا العديد من الشعراء المشاركين بالكتاب كالشاعر محمد علي الخفاجي رحمه الله، الذي توفي بعد صراع مع المرض، أما الشاعرة اطوار بهجت فذهبت ضحية الحرب الطائفية في22 فبراير 2006 بسامراء، وكذلك الشاعر رعد مسلم مطشر الذي اختطف في كركوك وقتل ٢٠٠٧، ورشيد الدليمي ٢٠٠٤ في الفلوجة رحمهم الله جميعا، فيما نجا الشاعر جواد الحطاب من محاولة اغتيال بعبوة ناسفة زرعت في سيارته٢٠٠٨، والأحزان مستمرّة….

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة