آباد

عبدالهادي عباس

يعيش سنحاريب – وهو شاب في الرابعة والعشرين من عمره – في ريف المدينة، ويعمل مزارعاً وفلاحاً لبستان كبير يملكه أحد الأثرياء.
وحاله كحال باقي الشباب – الذين في مثل عمره – يحلم بعيشة مرتفعة وجامعة مرموقة، ومقداراً مالياً يكفيه لشراء البيت الذّي يجول أفكاره.
إلّا أنه بحكم كونه فلاحاً أجيراً، يعلم أنّ ذلك بعيد وصعب المنال، لذا فهو يمقت عمله ووظيفته على الدوام. ويكثر مقته ولعنه كل مرّة يذكر والداه الّلذان توفّيا ليتركاه بنفسه ووحده يكابد عيشته.
صادف اليوم أن يكون مختلفاً عن غيره من الأيام .. حيث استيقظ على خبر انّ جدّه المريض والّذي يسكن شمال الولاية، قد مات. وأنّه قد ترك له إرثاً صغيراً من نصيبه.
وفكرة أنّ (كيف لجدّي وهو فقير أن يترك إرثاً؟) لم تمنعه من الذهاب والسفر لشمال المدينة والسعادة بداخله تغمره. مردداً على الطريق: (حياتي ستتغيّر أخيراً ).
حينما وصل .. وانتهت مراسم العزاء، حلّ الوقت الذي سيتلقّى فيه هذا الشاب إرثه الموعود.
(والصندوق العاج المزخرّف بالياقوت يذهب من نصيب سنحاريب) هكذّا سمع، وما أشدّ غبطته! حيث ظنّ المسكين أنّ ما يحتويه الصندوق الذي يبدو عتيقاً لوهلة، حفنة من المجوهرات والدولارات.
لكنّ سعادته الغامرة قد استُبدِلت بالحيرة والتساؤل حينما ما أوجده بداخل الصندوق كانت ساعة
(ساعة؟ أو هذا ما كان نصيبي! ساعة لعينة؟ .. وماذا سيفعل ولد مثلي بساعة؟)
ضمّ سنحاريب ساعته التي لازال محرّكها يعمل رغم شكلها العتيق بجيبه، ورجع إلى ريفه بائساً غاضباً.
في صباح اليوم التالي .. بينما كان متسلّقاً ليقطع الأشجار. مفكّراً أي سعر ستجلبه لو باعها اليوم؟ سقطت الساعة من جيبه، لتتهشّم مفاصلها وتتناثر عقاربها .. لكنّ صوت المحرّك لا زال يعمل.
نزل سنحاريب لالتقاط أجزائها وهو يردّد بغضب: (اوه يا إلهي! هذا ما كان ينقصني .. قطعة الخردة هذه تسقط من هذا الارتفاع البسيط وتنكسر؟ يا له من إرث بلا فائدة).
وهكذا كان على سنحاريب مساء اليوم، وحينما أنهى عمله واستلم أجرته. أن يزور المدينة بحثاً عن مكيانيكي مُختص بالسّاعات. عساه أن يعيدها تعمل.
لكن أهل المدينة ومن بينهم خبيرو الساعات، أخبروه أنّهم لم يرو هذه الساعة من قبل قط! .. ولا يعرف أحد كيف يركّبها أو يصلحها.
ازداد حزن الولد الشاب، وعاد إلى البيت الذي يعيش ويعمل فيه مكتئباً تعيساً، وحينما قرّر أن يضع ساعته في الصندوق ويرميها بأقرب نهر. قرأ في جوف الصندوق، اسم الساعة واسم المُصنّع وعنوان البائع. حينها فكّر: (لعلّي لو أخذتها لهذا العنوان وطلبت منه تصليحها .. سيفعل ويبيعها لي!).
وهكذا أراد سنحاريب الذهاب إلى المدينة مرّة أخرى والوصول للعنوان بالضبط كما هو مكتوب. وحينما وصل ودخل الدكّان – والذي يبدو إنّه يراه لأوّل مرّة – أخرج الساعة المتهشمة من جيبه، وقبل أن ينطق بأي كلمة نظر العجوز صاحب الدكّان لساعته وقال لسنحاريب بهدوء.: (سمعتُ أنّك فقدتَ عقاربك؟)

بعد عشرين سنة
لم يصدّق سنحاريب حياته الباذخة الآن، ولم يصدق ما جرى له تلك اللّيلة. فالرجل الذي أصلح له ساعته كان رجلاً غير طبيعي بلا شكّ.
يعيش سنحاريب الآن بأكبر البيوت في ضواحي المدينة، وتخرّج في الوقت ذاته من الجامعة الّتي لطالما حَلُم بها. وما برح يردد كل يوم على نفسه هذا التساؤل: (كيف ذلك؟ أيعقل أنّ ذاك الرجل ساحر عظيم تلاعب بالوقت فصرت لا أشيخ ولا أكبر؟ بل أعجب من ذلك. صرتُ أتلاعب بالوقت فأعيدُ العقارب إلى الوراء فيعود بي الوقت؟) وهكذا وجد سنحاريب حيلة لحياته الباذخة، فيقوم بإرجاع العقارب مدة معينة في كل نهاية شهر يستلم راتب. وهكذا عرِف ايضاً كيف يستلم راتبه مرة او مرتان او عشر مرات! في وقتٍ واحد.
مرّت اللحظات والسنون. وسنحاريب لا يشيخ ولا يكبر. ويتلاعب بالوقت وعقارب الوقت كيفما يشاء .. حتى أتى اليوم الّذي سقطت من يد سنحاريب ساعته للمرّة التالية. فتهشمت وتناثرت عقاربها، ومحركها لازال يعمل. لكنّه هذه المرّة لم يفلح بإيجاد عقاربها. فأسرع لإلتقاطها وهرع بذعر إلى الدكّان الذي زاره أخير مرة قبل سنون. بعدما واجه صعوبة في تذكّر عنوانه الدقيق.
دخل من الباب مسرعاً ووجهه شاحباً كالشبح، وصاحب الدكّان لا زال واقفاً على هيئته كما يتذكّره. وقبل أن يتبادر سنحاريب بالكلام، نطق العجوز المنتصب قائلاً: (سمعتُ أنّكَ فقدت عقاربك؟)
رد عليه سنحاريب: (أجل تهشمت ساعتي، وأريد أن..).
(لكنّك لم تفقد عقاربك. إنّك فقدت الوقت الّذي هبّته لك عقاربك)
أصِيب بالحيرة سنحاريب، ولم يفهم ما قاله له العجوز، حتى غادر غاضباً دون أن يُصلح ساعته.
وبينما وصل سنحاريب الولد الشاب بيته ساخطاً كظيماً، وفتح الباب. سقط ميتاً، مغطّياً الأرض بشعره المشيب وجسد الهرم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة