قد يبدو العنوان غريباً؛ فما الذي يجمع القوة الاعظم والمدججة بكل ماهو متطور علميا ومعرفيا وادارياً، والمستندة الى تقنيات غير مسبوقة وشبكة معلومات ومراكز بحوث واتصالات هائلة، بهذه المفردة الشعبية “التمسلت” والتي تعني التخبط في اتخاذ المواقف بعيدا عن المعطيات والبيانات الدقيقة، والتي تضع الاساس لهرم أولويات رصين يعي حاجات الواقع العراقي وتحدياته. من خلال قراءة جدول اولويات وهموم الولايات المتحدة الاميركية؛ نجده مثقل بالهم الايراني ونفوذه في عراق ما بعد زوال النظام المباد، هذا “الهم” اعمى بصيرة العم سام ومجساته عما يمور من تفاصيل وتاريخ شائك ومعقد واصطفافات وميول غاية في التنافر وركام من العقد التاريخية والنفسية والعقائدية، هي اكبر بكثير مما خلفته قادسيات ما بعد الحداثة. لا شيء لدى الادارات المتعاقبة على البيت الابيض سوى ايران ومشروعها التي تحاول عبثاً تصديره اقليمياً واممياً؛ أي “ولاية الفقيه هي الحل”. تلك النسخة الاخوانية التي حصدت فشلاً واضحاً في بلد المنشأ، بعد مرور أكثر من اربعة عقود من فرضها على سكان بلاد فارس العريقة.
عندما شعرت اميركا بهزالة المعطيات والمعلومات التي استقتها من مصادرها ولا سيما “المعارضة العراقية” بعد الاصطدامات المبكرة التي واجهتها اثر زوال النظام المباد، لم تعمد الى اعتماد مراجعة شاملة ومسؤولة تليق بما افرزته الاشارات الاولى للخراب المقبل، بل انجرت الى سلسلة من ردود الافعال والحلول التقليدية لمواجهة تحديات غير تقليدية تماماً، لتجد نفسها في نهاية المطاف الى جانب معسكر شعاره الوحيد (يا أعداء ايران اتحدوا) من دون الالتفات الى سيرة وغايات حلفاءها الجدد، ممن لا يقلون شراً عن أتباع ولاية الفقيه. وهذا هو “عين التمسلت” والذي يتبعه عواقب لا تحمد عقباها، حيث لن يفضي في نهاية المطاف لغير المزيد من جولات التشرذم والتناهش المجتمعي، بين قوى ومصالح وسكراب عقائد فتكت بكل ماهو وطني وحضاري في هذا الوطن المنكوب. العراقيون يعرفون جيدا من هم اعداء ايران الالداء، واللذين لا يختلفون بشيء عن اشباههم من الشوفينيين في ايران نفسها، ممن يسكنهم الحقد على العرب كقومية وبلدان. ان فلول النظام المباد وواجهاته المستجدة وبقايا جنرالات وملاكات اجهزته المهزومة، هم من يشكل الجسم الاساس الذي يعتمده “التمسلت” الاميركي على ارض العراق.
مثل تلك الاصطفافات والاجندات بعيدة كل البعد، عما يحتضنه أحرار العراق وايران والمدافعين عن مصالحهما الحيوية وحقوقهما وحرياتهما؛ من توجهات حكيمة ومسؤولة وبعيدة عن مثل تلك الاحقاد والغايات المشوهة، التي الحقت بالعراق وايران اضرارا واهوالا سترافقهما لامد طويل. وكما هي عواقب محرقة الحرب العراقية الايرانية والتي اجبر الشعبين الجارين على دفع فواتيرها القاسية، فان تصعيد التوتر ودفعه نحو حافات الهاوية بين واشنطن وطهران، بدأت عواقبه الاشد تأخذ طريقها نحو ساحات العراق وميادينه ومنابره ومنصات ممثلي تشرذمه الوطني، بوصفه خاصرة المنطقة الرخوة و”حايطها النصيص”. عواقب كنا قد حذرنا منها مبكراً في العديد من المقالات واللقاءات والنشاطات، لكن مشيئة أتباع “ولاية الفقيه” وصبيان الكاتيوشا التقت مع ارادة “التمسلت” الاميركية على تضاريسنا المستباحة؛ لتعصف بكل ما هدهدناه من آمال وتطلعات لعراق ما بعد داعش، ومن مخططات للتنمية واعادة البناء وغير ذلك من تطلعات مشروعة. بكل تأكيد ان الشعوب الايرانية كفيلة بالتصدي لحماقات “ولاية الفقيه” ونفوذها المنكمش، لكن ما الذي بمقدورنا فعله مع هذا لـ “التمسلت” الاهوج للعم سام…؟!
جمال جصاني