شكيب كاظم
هذا كتاب ذكريات حميمة، دونها أديب مُقّلٌ في كتابته وشعره، عن أبيه الشاعر المصري المعروف أحمد شوقي (1868 -1932) ولعل شفيعه في ذلك ومن مهد السبيل أمامه، إنه كان الابن البكر للشاعر، لكن والحق يقال إنك إذ تقرأ هذه الذكريات، تجد أمامك أديباً ثر العبارة، جميل الديباجة، نال مكانته بجهده، ولم يتعكز – إلى حد ما- بعكاز شهرة أبيه، ولقد أُثِرَ عنه شعر جيد، لكن على الرغم من ثناء حافظ إبراهيم (1872 -1932) عليه وحثه على نظم الشعر لكن أباه يحاول ثنيه عن هذا المجال بحجة أن الشعر يعذب النفس ويجلب السَقَمَ، الروحي والبدني، وأرى أن في هذا الثني ومحاولة الحجب شيء من الغيرة والغبط، مع أن الثابت علمياً إن الآباء لا يغارون من الأبناء لأنهم يرون فيهم امتدادهم، وظلاً ظليلاً لوجودهم (سألني حافظ بك مرة، في أثناء هذه الرحلات، وكنا قد فرغنا من تناول الطعام، وشرعنا نتمشى في الطريق المؤدي من الهرم الأكبر إلى أبي الهول، قائلاً: أتقول الشعر؟ فأجبته: أجل، ولكن قليلاً… فقال: إذن قل شيئاً في الهرم أو في أبي الهول فقلت.
أيا هرمي مصرَ سلامٌ عليكما
ولكني لم أتمكن من تكملة البيت، عندئذ فكر حافظ بك لحظة ثم قال:
سلام مشوق منذ خمس إليكما
وهو يقصد بالخمس، السنوات الخمس التي قضيناها بالمنفى.
كما أنشدته بضعة أبيات كنت نظمتها في مناسبة أخرى، فالتفت إلى أبي وقال: أتعلمُ يا شوقي أن ابنك يُرجى منه؟ عليك أن تتعهده ليصير شاعراً مطبوعاً… فأجاب أبي: إني أفضل ان يعنى هو بالنثر لا بالنظم، لأن الشعر لا يتحمل الوسط، وحسين لن يبلغ فيه القمة، فقال حافظ بك موجهاً إليَّ الخطاب: لا تُطِعْ مشورة أبيك يا حسين، إنه يقول ذلك لأنه غيران منك، إذ يخشى ان تسبقه في يوم من الأيام! فقال أبي في مرارة، لماذا بربك تريد منه أن يكون المسكين شاعراً؟ لماذا؟ أليشقى مثلنا ويحرق أعصابه؟» ص79-80.
ولقد أصاب حافظ إبراهيم كبد الحقيقة، فالأب يخشى ان يبزه ابنه وتتحول الأنظار إليه، ومنذ سنوات طفف لويس عوض كيل أخيه رمسيس عوض ولم ينشر له في ملحق (الأهرام الأسبوعي) يوم كان لويس (1915 -1990) مسؤولاً عن الملحق، مما ذكرته في مقال لي سابق وكان النشر في الملحق أملاً يراود النفوس، جالباّ ذيوع ذكر.
في المذكرات والذكريات هذه التي دوّنها حسين شوقي (1898 -1967) عن أبيه، فيها الشيء الكثير من المسكوت عنه، والذي لم يقف عنده تأريخ الأدب، فذا التأريخ يقف عند الشواخص المهمة أما دقائق الأشياء، فلا يكاد يحفل بها لأنها ببساطة لم تصل إليه، ولأن حسيناً في كتابته هذه إنما ينطق من معايشة للحدث، وقرب منه، لا بل في الصميم منه فهو النجل الأكبر لأحمد شوقي فإذ شاع في أوساط الأدب والشعر، أن أحمد شوقي كردي الأصول، فضلاً عن عباس محمود العقاد (1889- 1964) وأحمد تيمور باشا (1871- 1930) فإن حسيناً هذا يكشف لنا حقيقة جديرة بالتدوين فهو يدوّن (كان أبي يغتبط كثيراً بسفره إلى تركيا، إذ كان يحب الأتراك حباً جماً، ترى أهذا بسبب الدم التركي الذي كان يجري في عروقه؟ لقد أشاد بانتصاراتهم كما بكى لهزائمهم…، ص25-26. وما ينبئك مثل خبير، فهو أبن الأسرة وَخَبَرَ أسرارها وأخبارها، وإذ كثر اللغط بشأن السلطان عبد الحميد الثاني (1842- 1918) وشُوَّه تاريخه، ولقد كان وراء ذلك – كما أرى وكتبته- وقفته الشجاعة إزاء مطالب الداعية الصهيوني وعراب مؤتمر بازل الصهيوني الأول المنعقد سنة 1897 تيودور هرتزل (1860 -1904) بإنشاء الوطن القومي اليهودي على أجزاء من فلسطين وقولته الحاسمة: إنها ليست أرضي وملكاً لي كي أقْطِعَكَ إياها، وقد وجدت في هذه الذكريات الجميلة التي سطرتها يراعة حسين شوقي، تناغماً مع هذه الفكرة، إذ يدون «وكان السلطان عبد الحميد معروفاً لدى الأوربيين بالسلطان الأحمر، وهو مظلوم على حد قول أبي بهذه التسمية، بل ضحية لتشهير الأجانب، لأنه كان حجر عثرة لمطامعهم في تركيا، وقد قّدَّمَ الخديو [عباس حلمي] أبي لجلالته فوجده عكس ما كان يُشاع عنه، رأى عاهلاً حيياً متواضعاً مثقفاً للغاية» ص24.
من المعروف للدراسين، أن الشاعر أحمد شوقي، كان قريباً من الأسرة الخديوية التي حكمت مصر منذ أيام محمد علي باشا الكبير، أي منذ سنة 1805، واديل بهذه الأسرة، إثر دخول الدولة العثمانية الحرب إلى جانب المانية، ضد دول الحلفاء، فاحتلت بريطانيا مصر، وكان من قرارات الحاكم البريطاني، نفي أحمد شوقي الذي توجه نحو الربوع الاسبانية وأقام في برشلونه وكان أحمد شوقي يومذاك ملء السمع والبصر، يتوافد الناس والمحتاجون إلى دارته، كي يساعدهم لدى الخديو، أو كبار المسؤولين فضلاً عن زوار دارته القريبة من الجيزة والتي كان يطلق عليها اسم (كرمة ابن هانئ) تيمناً بالشاعر الحكمي ابن هانئ أبي نواس فان الناس انفضوا من حوله، يوم أديل به وصدر الأمر بنفيه، وهذا شان الناس في كل زمان ومكان، ويدون حسين شوقي هذه الواقعة بكل الأسى «على إننا لم نكد نصل إلى مصر، [إذ كانت الاسرة في سفرة إلى استانبول وغادروها مع اقتراب نذر الحرب] ثم يعزل بعد ذلك الخديو، حتى أخذ عدد زوار (الكرمة) ينقص يوماً بعد يوم، بل صار الأصدقاء يخشون لقاء أبي كي لا يتهموا بمصاحبة أحد رجال النظام القديم، كانت بينهم استثناءات، لأن الدنيا لا تخلو أبداً من القلوب النبيلة ولو كان عددهم قليلاً، وإلا فما أقبحها.
كذلك يذكر أبي بالخير ذلك الضابط الشاب الذي كلف بتفتيش (الكرمة) فكان يؤدي واجبه البغيض، وهو في أشد حالات الخجل، بل كان يكرر لأبي الاعتذار عن عمله.
مسكين أبي كم تألم لهذه الحال! وبخاصة لجحود الناس، وهو الشاعر الشديد التأثر والإحساس، لذلك قابل بارتياح حكم السلطة العسكرية في ذلك الوقت حينما كلفته بمغادرة الوطن (عام1915) لينجو من الدسائس ولا يتألم بمثل هذه المشاهد». ص27.
وحسين شوقي يجيد اختيار ألفاظه، فهو احتراماً لأبيه ولأسرته – يصف أمر النفي والإبعاد القسري- بتكليفه مغادرة الوطن!
تقرأ في هذه السياحة الاستذكارية، الكثير من الذي سكت عنه تأريخ الأدب ولعله من غير المعروف لدى الدارسين، نقرأ عن تطيّر الشاعر أحمد شوقي وتشاؤمه، حتى إنه كان يخشى زيارة أحد معارفه الذين اشتهروا بمنحوس الطالع حتى إذا رآه، هُرعَ إلى سيارته وأمر سائقه بالانطلاق، كما كان يتشاءم من البوم، وإذ لم يكون اكولاً فإنه كان يتذوق الطعام ويحبه.
كما أنه كان حانياً عطوفاً على أبنائه، حتى كاد يحطم مستقبلهم لولا صرامة المربية التركية التي كان رأيها حاسماً في مواضع عدة، ولاسيما حين توجب على (حسين) دخول المدرسة الابتدائية، ولأنه كان يحب اللعب مع اترابه من الأطفال فكان يمرض ويتمارض كي لا يذهب للمدرسة، يمالؤه في ذلك أبوه، مع موقف سلبي لأمه، ولولا هذه المربية الشديدة المراس- كما يقول المؤلف- لما ذهبت مطلقاً إلى المدرسة. تراجع ص11.
في السنتين الأخيرتين من عمره، وكأنما أحس أحمد شوقي بدنو اجله، والناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، ويبدو أن شوقي الذي أمضى جُلّ سنوات العمر بالسفر والاصطياف وحفلات الطعام والتنزه فقد انتبه قبل ضياع العمر والموت، فأنجز العديد من مسرحياته، التي يسميها حسين شوقي حسب تسمية تلك السنوات، رواياته التمثيلية فأتم (مجنون ليلي) و(قمبيز) و (الست هدى) وقبل هذا التأريخ أي سنة 1927، أعاد طبع ديوانه (الشوقيات).
ويحدثنا المؤلف حسين شوقي عن ساعات أبيه الأخيرة فـ (في يوم الوفاة) أي 13/ أكتوبر/ تشرين الأول/ 1932، خرج يتروض في السيارة مع سكرتيره في ضاحية مصر الجديدة وقد تحدث معه في موضوعات دينية (…) عن التوبة والغفران، وهل هو يتذكر نصاً صريحاً عنهما في القرآن الكريم(…) وقد توفي حوالي الساعة الثانية صباحاً… ايقظني الخادم قائلاً، إن أبي تعبان وإنه أرسل في طلبي، كما أرسل في طلب أمي، فأسرعت إلى حجرته فوجدت أمي بجانب السرير قلقة تناديه: ما بك؟ ما بك؟ ولكنه لا يجيب، إذ كانت روحه قد فاضت، ذهبت إلى ذلك العالم المجهول، الذي طالما ساءَل عنه وتمنى لو في عرف أسراره. تراجع ص133.