الفائض

محمد زكي ابراهيم

حينما تمكنت الإمبراطوريات القديمة من تحقيق فائض مالي، وانتهجت قدراً من العدالة في توزيعه على السكان، تحول هذا الفائض إلى فنون وآداب وعلوم ومدارس وعمارة ومدن. وأصبح أداة من أدوات التغيير الاجتماعي، الذي أدى إلى ظهور الحضارات التاريخية الكبرى في العالم.

وقد حصل الأمر ذاته في أوربا في عصر الاستعمار، فصنع لهم النهضة، وأمدهم بألوان المعارف. لكنه حرم العرب مما كانوا يجنونه من التجارة البحرية، ولجم قدرتهم على التمدد الحضاري في الشرق. فأخذوا يستهلكون ما لديهم من قوت، وتوقفوا عن أي نشاط آخر، كانوا يقومون به من قبل.

في هذا العصر، لم تتحقق لدينا وفرة ما، باستثناء سنوات قليلة ارتفع فيها سعر برميل النفط ارتفاعاً مفاجئاً. لكن الحروب والنزاعات والدسائس أتت عليها، فلم تترك منها إلا اليسير. ولم تلبث الزيادة المفرطة في السكان أن التهمت ما تبقى منها. أما الموارد الأخرى فقد انحدرت انحداراً مريعاً، حتى لم تعد ذات شأن، يعتد به.  ولا يمكن لنا أن نتوقع الحصول على مردود ثقافي جيد، في عصر الجوع والحاجة والعوز . بل لا بد من الانتظار حتى تتغير أحوالنا بشكل مقنع. وبدون ذلك ستنحصر بضاعتنا في المحاكاة والتقليد والاستنساخ.

وعدا عن ذلك فإن تعدد الاتجاهات السياسية في المجتمع لا يعود إلى الثراء الفكري الذي ينقسم بشأنه الناس إلى يمين ويسار ووسط، بل إلى التأثيرات الخارجية التي تفد بصور وألوان شتى. بعد أن انعدمت الرؤيا في الداخل انعداماً شبه تام.

ولكي تعود الثقافة العربية إلى سابق عهدها قبل النهضة الأوربية، وتناطح غيرها من الثقافات، لا بد من فائض صناعي أو زراعي أو سياحي أو خدمي، وهكذا. أما إذا لم يستطع العرب توفيره بأي صورة من الصور فلن يكون هناك إلا الأسوأ.

يبدو المشهد قاتماً الآن، بسبب هذا النقص. فالسواد الأعظم من الناس انشغل بلقمة الخبز، عن كل ما سواها، ولم تعد أمور مثل اقتناء لوحة زيتية لفنان عظيم، أو شراء كتاب لمؤلف بارع، أو قضاء سهرة في مسرح جاد، تهمه في قليل أو كثير. فبالخبز وحده يحيا الإنسان.

بل إن النخبة التي تقود التغيير وتبتكر الحلول، لا تمتلك اليوم سوى قوت يومها، وقد لا تمتلكه بالمرة. فهي لا تحصل على أي مردود من عملها، بسبب عدم وجود فائض مالي، يمكن أن يعود شئ منه عليها.

إذا لم يحو البلد شركات عملاقة، تنهض بإنتاج السلع، وتطوير الخدمات، وعمارة الأرض، فإن من المستحيل إنتاج ثقافة عصرية، تتماهى مع الواقع، وتحقق للفرد ما يحلم به من أمن وسعة ورفاهية. لأن الأمور مرهونة على الدوام بقيم العمل والإنتاج، التي تحقق العدالة في التوزيع والمساواة في الفرص، والرفاهية في العيش. وهذا ما يجب أن يضطلع به على الدوام أي شعب يفكر بالبقاء.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة