شكيب كاظم
وأنا أقرأ الكتاب النقدي المهم، ككل النتاجات النقدية والمعرفية للدكتور عبد الله محمد الغذامي، الموسوم بـ (النقد الثقافي. قراءة في الأنساق الثقافية العربية) عثرت على حقيقة، أرى أن الناس ستبقى تتوارثها، على الرغم من القرون التي تفصل بين الطرفين، مما يؤكد أن الإنسان سيبقى يحمل صفاته ونوازعه الكامنة في جيناته الوراثية، فهو يحدثنا عن الخطاب الشعري للحطيئة، الذي ظل يرادف المدح بعد الذم، ولا يتردد عن الذم بعد المدح، حسب دواعي الاسترزاق ومتطلباته، ولا تغيبن عن بالنا تلك الأبيات المدوية في مدحه الزبرقان بن بدر، طالبا عطاياه، التي جاءت بصيغة المدح في موضع الذم، ومطلعها:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها وأقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
أو التي تحمل الوجهين، وجه المدح أو الهجاء، فبالإمكان تفسيره مادحا، أن لا تذهب إلى المكارم فإنها تأتيك طواعية، ولا ترحل إليها لأنك أنت الذي تُطعِم الجائع، وتكسو الفقير المعتر؛ لكن الزبرقان بن بدر فسرها على الوجه الآخر، فرأى أن الشاعر الحطيئة، يقصد مالك أنت والمكارم، فأنت بعيد عن مقارفتها، وأجلس مكانك فأنت المُطَعم المكسو؟ وهو الذي أقره عليه الخليفة عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ووافقه الرأي، فأوقعه في الحبس، ولم يخرجه منه إلا بعد تلك الأبيات الشعرية الاعتذارية، التي تفيض رقة وعذوبة واعتذارا، وبعد أن اشترى الخليفة عمر منه أعراض المسلمين، وسمعتهم من أن لا يتعرض لها شاعر هجّاء، فاحش القول بذيؤه، مثل الحطيئة مرة أخرى.
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
وها نحن نرى اليوم الكثير من الشعراء المداحين، تحولوا بطرفة عين وانتباهتها إلى قادحين للسابق، وما وجدوا منقصة أو مثلبة إلا والصقوها به، من غير أن يطرف لهم جفن أو يحاسبهم ضمير، وهذا سلوك مخجل ومؤسف، وهو ما فعله الشاعر الهجاء جرير بن عطية الخطفى-كذلك- على سبيل المثال، فهو الذي مدح الوالي الحجاج بن يوسف الثقفي، وعاش في كنف عطاياه، حتى إذا أديل الحجاج من ولاية العراقين، وتعني ولاية الكوفة، وولاية البصرة، ولعله الحجاج من قلة تولوا الولايتين، او أراه الوحيد، بسبب قسوته المفرطة ضد أهل العراق!، ما أن أقيل من وظيفته حتى تحول الثناء إلى هجاء.
كما أن ثمة مثلبة شعرية ولعلها تمسي أخلاقية؛ مثلبة أخرى اقترفها أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري (٢٠٦-٢٨٤ه) الذي كان يضع قصائد المدح في خدمة أكثر من شخص، مع شيء من التحوير أو التعديل تقتضيه المناسبة، فإذا كان أبو الطيب أحمد بن الحسين الجعفي المتنبي؛ مالئ الدنيا وشاغل الناس، على حد وصف ابن رشيق القيرواني في كتابه النقدي المهم ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده) قد أكثر من قصائد المديح، فكانت أشبه بالعلامة المسجلة باسمه واسم مُمدْحيه وممدوحيه، فهذه في مدح أبي الحسن علي سيف الدولة بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي الحمداني (303-356هـ) وتلك في مدح المغيث بن علي بن بشر العجيلي، وأخرى في مدح ابي العشائر بن همدان، وكذلك في مدح مساور بن محمد، ومحمد بن سيار بن مكرم التميمي، وكافور الاخشيدي وغيرهم، فإن البحتري كان يقدم لممدوحيه قصائد قديمة قيلت في آخرين، ولقد رأيت ذلك لدى أبي فرات؛ الجواهري الكبير،- توفي في نهاية تموز 1997- فإن قصيدته الشهيرة الرائعة ( تحرك اللحد) نظمها في مدح السيد حكمة سليمان رئيس وزراء حكومة الانقلاب العسكري الذي قاده الفريق بكر صدقي رئيس أركان الجيش العراقي، ضد حكومة ياسين الهاشمي في 26/ تشرين الأول/ أكتوبر/ 1936 بممالأة من الملك غازي الأول، أو دفع خفي منه، واضعين في الحسبان غرارة الملك غازي، وقلة خبرته بأمور الدولة والحكم ومطلعها:
أقدم فأنت على الإقدام منطبع وابطش فأنت على التنكيل مقتدر
وثق بأن البلاد اليوم أجمعه لما ترجيه من مسمعك تنتظر
فحاسب القوم عن كل الذي اجترحوا عما اراقوا وما اغتالوا وما احتكروا
للآن لم يلغ شبر من مزارعهم ولا تزحزح مما شيدوا حجر
فضيق الحبل واشدد من خناقهم فربما كان في ارخائه ضرر
أكان للرفق ذكر في معاجمهم أم كان عن حكمة أو صحبه خبر
حتى إذا حدث الذي حدث في تموز 1958، وما أعقب ذلك من صراع عنيف على السلطة بين قطبي انقلاب تموز؛ عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف، وصراع أشد بين الأحزاب السياسية، وكأنها ما كانت تجمعها جبهة الاتحاد الوطني، التي أسسوها في السنة الماضية 1957؟ عاد أبو فرات الجواهري ليخاطب بها رئيس الوزراء، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة؛ الزعيم الركن عبد الكريم قاسم، والقاها في ملعب ساحة الكشافة، أمام حشد من الناس، جاءوا للاحتفاء بالذكرى السنوية العاشرة، للتظاهرات التي انطلقت في كانون الثاني 1948، احتجاجا على عقد معاهدة جبر- بيفن في ميناء بورت سموث البريطاني، في ذلك الشهر، ووقعها رئيس وزراء العراق صالح جبر، ورئيس الوزارة البريطانية بيفن، ودعت الناس للاحتفال جبهة الإتحاد الوطني، وحصل شجار شديد بين الفئات القومية من جهة، واليسار من جهة ثانية وقد شهدت ذلك.
أقول، وإذ أطل الجواهري الكبير على حشود الناس حتى ألقى على مسامعهم القصيدة ذاتها، لكن بتغيير طفيف، ليمسي البيت المذكور آنفا:
أكان للرفق ذكر في معاجمهم أم عن كريم او أصحابه خبر
ومما جاء فيها:
إني أصارحك التعبير مجترئا وما الصريح بذي ذنب فيعتذر
تصور الأمر معكوسا وخذ مثلا مما يجرونه لو أنهم نصروا
تهامس النفر الباكون عهدهم أن سوف يرجع ماضيهم ويزدهر
وتلك للحر مأساة وموجعة يدمى ويدمع منها القلب والبصر
حتى ظن الناس، وأنا منهم أنها قصيدة جديدة، خص بها رئيس الوزراء الجديد كريم قاسم، لكن مداخلة ذكية من الباحث الكبير الأستاذ مهدي شاكر العبيدي، وضعت الأمور في نصابها الصحيح، وأنها قصيدة واحدة لا قصيدتان، مع بعض التغييرات، التي أجراها الجواهري الكبير، ومن المؤسف حقاً أنها تأتي على هذا الشكل الحاد القاسي، فنجد فيها الحبال والخنق والتضييق والبطش والتنكيل، ومصادرة الأراضي والأموال، ومثل هذه الآراء تدغدغ نرجسية الحكام، فيوغلوا في النكال والبطش، ويكون المحرض على هذا المسلك أول من يدفع ضريبة دعاويه هذه!
الأمر هذا يذكرني بالأديب والسياسي الإسلامي المصري (سيد قطب) الذي أصدر في بواكير ثورة يوليو/ تموز 1952 جريدة اسمها (التحرير) كان يدعو فيها إلى مثل دعوات الجواهري، فوجدت أرضا خصبة لدى الثوار العساكر فكان هو من دفع ما صدر عن قلمه، فاعدم صيف سنة 1966 عن ستين سنة، فخسرته الثقافة قبل السياسة. هو الذي له كتاب في النقد الأدبي درسناه في الجامعة، الى جانب كتب أخرى في النقد، وتفسير لغوي بياني جميل للقرآن الكريم، عنوانه ( في ظلال القرآن) ولن أتحدث عن كتبه الدعوية!