حول ا لأغنية السبعينية

فوزي عبد الرحيم السعداوي

كان رموز البعث يتطيرون من الأغنية الريفية بل ويكرهون اللهجة الجنوبية وقد عبر عن ذاك بقسوة خير الله طلفاح في حين عبر آخرون بشكل أكثر دبلوماسية، ولقد كانت الأغنية الريفية على الرغم من انطلاقها من واقع متخلف ذات محتوى تقدمي بخلاف الأغنية البدوية المفضلة لدى أبرز قادة البعث وقد سرت أشاعة طريفة أوائل السبعينات عن أحمد حسن البكر بشأن رد فعله على أغنية ستار جبار “أفز بالليل نص الليل واهجس نار بضلوعي … واوجد بيدي ماالكاك … واسكي فراشي بدموعي” حيث منعها البكر باعتبارها أغنية خليعة قائلا شعنده هذا كاعد بنص الليل مايستحي!!!.

هذا نموذج لرأي البعثيين بالأغنية الريفية، في السبعينات حيث برز الكثير من الأصوات الريفية بشكل خاص مع عدد قليل من الأصوات البغدادية التي حملت بدورها شيئأً من روح الأغاني الريفية فقد كانت تلك الأغاني الريفية سمة ذلك الوقت، من أهم الأصوات التي ظهرت في السبعينات وتميزت بالحزن الجنوبي واستبطنت معاني سياسية، حسين نعمة ورياض احمد وسعدون جابر، وقحطان العطار، فؤاد سالم، وطالب القرغولي (هو ملحن لكنه أدى بعض الأغاني بشكل رائع)، حميد منصور،سعد الحلي، كما ظهر آخرون مثل فاضل عواد ممثلا للأغنية البغدادية.

لقد قدم حسين نعمة وقحطان العطار وطالب القره غولي مجموعة من الروائع كانت برغم عاطفيتها تحمل حزن العراق الأزلي، فملحمة ياحريمة تختزن حزنا هائلا أكبر من ان تتحمله قصة حب وكان قحطان العطار أكثر وضوحا في حزنه الوطني المعبر عنه عاطفيا وهذا ما أكده سلوك العطار ومصيره وهو ماتترجمه بعض اغانيه مثل “يكولون غني بفرح”، أو ياضوه ولاياتنا شعندك خبر، أما فؤاد سالم فلا نحتاج لجهد كي نقول ان بعض أغانيه العاطفيه وغير العاطفية انما تقارب الشأن العام فهو عدا عن ذلك كان ملتزما سياسيا. أما طالب القره غولي الملحن المبدع فقد أدى بعض الأغاني التي لحنها لمطربين تتميز بالشجن العميق لكن بشكل خاص أدى أغنية غير مشهورة اسمها هذاك انت هذه مقاطع منها: هذا آنه وهذاك انت… وتظل بظنوني ذاك انت… هذاك انت ويمر طيفك وأشوف آمالي لو شفتك… كبرنا وكبرت الدنيه بهوانه وكل حلو عرفته… شفت دجلة وفي مثلك يجود بخير الي ولاجلك… تتهادى ويه جاري الماي هلهولة فرح غضة.
ربما يكون رياض أحمد المطرب الأكثر حزنا بين جيله وبرغم ان أغانيه بشكل عام عن الحبيب الا ان كمية الحزن الذي عبر عنه كانت تشير إلى معاناة خاصة للمطرب اثبتتها نهايته الماساوية التي لم تكن بعيده عن الشأن العام فقد كان رياض أحمد عرضة للاستغلال من قبل وطبان أخو صدام غير الشقيق الذي كان يجبره بين الحين والآخر على احياء حفلات خاصة مجانا بل ذكر لي صديقه الملازم له انه اضطر ان يدفع للفرقة الموسيقية من جيبه الخاص ذات مرة فيما هو كان يعاني من الحاجة.
لقد عبرت أغاني الريف السبعينية عن أحزان وآلام ومظالم الناس المتراكمة في لحظة تجلي وانتصار باجتراح الأغنية للتعبير عن ذلك… وعلى الرغم من ان الأغاني كانت تتحدث عن الحبيب البعيد أو ذلك الذي يمارس الصدود دون رحمة فان ذلك في العمق كناية عن كراهية الحاكم الذي ليس بالمستطاع سوى التعبير عن التمرد الحزين عليه وقد كان ماجرى في 8 شباط في عمق الذاكرة المعذبة تنعشه الأشعار والأعمال الأدبية والقصص الشفوية لما جرى في الماضي وانتهى بمجزرة ٨ شباط، لقد كانت الأغنية السبعينية تعبيرا عن انتصار معنوي ضد كل ما يمثله البعث.

أغنية الثمانينات

قبل الدخول في عقد الثمانينات والحرب العراقية الإيرانية كانت ملامح المرحلة المقبلة قد توضحت من خلال تجنيد كل المطربين للغناء لصدام وبداية أختفاء الأغنية العاطفية، وما ان بدأت الحرب العراقية الإيرانية حتى اختفت بشكل كامل الأغنية العاطفية لتفسح المجال (للأغنية الوطنية)، لقد عبرت مرحلة الثمانينات عن نهاية حكم الحزب والمؤسسات لمصلحة الفرد (صدام)، لقد كان دور الأغنية العراقية في مدح الحاكم قد بلغ ذروته وأختفى معه أي هامش للمناورة لدى المطرب والملحن كما آذنت بنهاية دور الفئات الاجتماعية التي أنجبت الأغنية العراقية و رعتها.

من زاوية أخرى ساهمت الأغنية (الوطنية) باثراء اللحن العراقي حيث قدم المطربون العراقيون أغاني برغم اعتراضنا على أهدافها السياسية تحفاً في اللحن والأداء لايمكن تجاهلها فأغنية مثل. “يا كاع ترابج كافوري” لعلي عبد الله او “الشمس شمسي والعراق عراقي” لجعفر الخفاف وأغنية “هلا بالناذر عمره..هله بيه وبصبره” لكاظم الساهر وأغنية مائدة نزهت “العراقي” وبعض الأغاني الريفية ذات الأداء العالي، لقد كان هناك تكامل بين الأداء المذهل لبعض الأغاني (الوطنية) وبين شخصية الدكتاتور الذي كان يرى نفسه كاملاً يستحق كل ماهو كامل ومبدع حيث مثل ذلك لحظة ذروة في نرجسية صدام.

لقد رمز انفراد الأغنية الوطنية إلى نهاية عصر الشعب الذي بقت درجة من دوره في ظل كل العهود الدكتاتورية وعلامة على تدني الوعي العراقي في رحلته نحو الانحطاط التي بدأت قبل عقود.

لم تتعاف الأغنية العراقية حتى بعد ١٧ عام على نهاية صدام والبعث حيث مستواها الفني والأخلاقي متدني جداً ويعود ذلك إلى أمرين أولهما ان الوعي المتدني للمجتمع ليس فقط لم يتحسن قياساً بأيام صدام بل على العكس تراجع بشكل مريع أما الثاني فيتعلق بالهوية الاجتماعية والسياسية للحاكم وهي بالتاكيد أسوا من الفئات التي كانت تدعم حكم صدام.

ان الأغنية العراقية لن تعود لسابق عهدها قبل استكمال بعض الشروط، يجب حدوث تغيير في الوعي العام

وهو أمر سوف يأخذ وقتاً طويلاً ويحتاج لحدوثه تغيرات اقتصادية وسياسية الأمر الثاني رحيل السلطة الحالية منتجة الجهل والذوق القبيح.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة