هروبنا

الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

جاسم المطير

الحلقة 12

مثــّـل الدور المهم الذي لعبه حافظ رسن مع حسين سلطان في مناقشات ، من قبل ، ومع نصيف الحجاج في نقاش ، من بعد ، ان افضل طريقة في المحافظة على سرية العمل بمكان الحفر وعلى سرية حركة رواده هو ايجاد علاقة ارتباطية بين مكان الحفر وبين كادر استنساخ الجريدة اليومية السجنية .
التقط هذا الارتباط فعلا خلال لقاءات فريق التخطيط وتقرر اختيار الصيدلية مكانا لاستنساخ الجريدة السجنية كما تقرر اناطة مهمة الاستنساخ بأسماء سجناء كلهم من أعضاء فريق التنفيذ.
الهدف العملي المحدد من هذه الخطوة هو تقديم تفسير مقبول لسؤال قد يروجه بعض السجناء: لماذا يتردد فاضل عباس وحسين ياسين وكمال ملكي وجدو وعقيل حبش على الصيدلية كل ليلة ..؟
الجواب تقدمه الجريدة اليومية المنطلقة صباح كل يوم من ” مكان ” الصيدلية حيث يعمل هذا الرباعي نسّاخا للجريدة بقصد توزيع نسخة واحدة لكل قاووش . ووفق هذا المنحى فلا احد من داخل السجن تساوره شكوك تفرض اقتفاء آثار خطى وحركة فريق مكون من رباعي متميز بقدرات عقلية وعملية وبمهارة الفعل اليومي المثابر والاستدلال في تهيئة ظروف نجاح العبور الى الحرية من نفق الحرية بوساطة الحفر على باطن ارض النفق والحفر بالكلام الطيب على ورق الجريدة السجنية في وقت واحد .
مهمتان بوقت واحد ..
صحيح أننا كنا في شغل متواصل بتفاصيل الاستعداد اليومي لتنفيذ وإنجاح عملية حفر النفق لتدبير الهرب الجماعي وبرغم أن هذا الانشغال قد فرض على أذهاننا وعقولنا وأوضاعنا النفسية بداية حقيقية من سطوة الانفعالات على هيئة تصرفاتنا الشخصية ، لكننا لم نتوقف عن متابعة ما يجري في العراق والساحة العربية من أحداث سياسية ومتابعات عسكرية كنا نحسبها ، وفقا للتحليل السياسي العلمي الدقيق ، جزءا من الاستعدادات للحرب الثالثة المحتملة بين الدول العربية واسرائيل .
الاحداث تتسارع أمام عيوننا سواء كانت الاحداث الجارية في داخل السجن أو في بغداد أو في مصر والاردن وسوريا وإسرائيل وفي غيرها من البلدان الغربية الكبرى كما كنا نتابع تطور مواقف الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية . الأجواء كلها مشحونة بالمفاجآت ولم نتجاهل احتمال قيام حرب واسعة في الشرق الأوسط . هذه الأجواء كانت بمثابة قوة إرغام تدفعنا للبدء بالحفر دون أي تأخير فصارت العلاقة متطورة إلى حد كبير بين فريقي التخطيط والتنفيذ وأصبح كل كلام متبادل بين حافظ رسن أو مظفر النواب وبين أي واحد من فريق التنفيذ هو شكل من أشكال علاقة بين مؤثر ومتأثر فالكلام المتبادل مسموع من الطرفين بروح عالية من الديمقراطية والمسئولية المشتركة لذلك لم تكن هناك أية إشكالية للانتقال من مرحلة تخطيط حفر النفق على الورق إلى مرحلة تنفيذ الحفر في وسط أرضية الصيدلية في غمرة حماس وشجاعة فريق التنفيذ .
في لقائي مع زوجتي المرحومة سميرة في المستشفى حسب الموعد المتفق عليه يوم الخميس الماضي إذ كان هو الخميس الثالث الذي نلتقي معا داخل المستشفى . تبلورت آراء عديدة وتحدثنا عن أمور تتعلق بوثبتنا من خلال النفق عندما يصيح ديك ذات صباح في الحلة ، في حال استكمال حفر النفق ، مؤذنا بالطريق الذي يقودنا إلى الحرية والى مجد الحزب الذي تمسكنا بوصاياه . هذه المرة جاءت سميرة ( من بغداد ) مع والدتي ( القادمة من البصرة ) لمقابلتي حيث ذهبت ُ مع أثنين من السجانة لأستكمال الفحوصات الطبية على كليتي وعلى المجاري البولية . أخبرتني سميرة بأن الوضع في بغداد يزداد سوءا حيث لا أمل باطلاق سراح السجناء السياسيين كما كان يشاع سابقا ، بعكس رأي حكومي نقلته والدتي التي كانت قد قابلت مدير السجون العام ووزير الداخلية ضمن وفد نسائي من لواء البصرة حيث صرح هذان المسئولان أن الجدل بين أركان السلطة في بغداد ما زال متواصلا حول إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين في العراق . كانت والدتي من غير المقتنعات بمثل هذه التصريحات التخديرية الكاذبة ، بل أنها تؤيد ما قالته لي سميرة بان هناك إشاعة قوية باحتمال نقل السجناء الشيوعيين من سجن الحلة وسجون عراقية أخرى إلى سجن نقرة السلمان وحصرهم بمكان واحد للسيطرة عليهم ولاحتمال قيام حملات اعتقالات جديدة في الجيش وخارجه من الاسلاميين وغيرهم من الذين يعادون جمال عبد الناصر وزجهم في السجون التي سيفرغونها من الشيوعيين .
مع الأسف الشديد لا أتذكر اسم الطبيب الذي كان يتفحص أشعتي ثم زودني بالدواء اللازم للعلاج وقد أبدى معي تعاطفا شجاعا للمرة الثانية وهو يكرر أقواله التي أكد لي إياها في المرة السابقة بان صدور قانون العفو العام أصبح قاب قوسين وأدنى ، كما كان يؤكد لي رؤيته الطبية بأنني سأتماثل للشفاء التام قريبا وسأكون مع باقي السجناء السياسيين في العراق كله أحرارا لان الحكومة ستفعل ذلك رغما عنها ومراعاة لمطالب الشعب العراقي الذي يهتف بصوت قوي ، في هذه الأيام ، لإطلاق سراح السجناء ثم ختم قوله أمام السجانة والممرضة والفرّاش أن الباطل لن يدوم .
زودتني والدتي بأخبار كثيرة عن الأهل والأقارب والأصدقاء في البصرة . كما أخبرتني أن صحة والدي جيدة ولكنه ما زال يرفض إجراء العملية الجراحية الضرورية لعينيه اللتين أصيبتا بالعمى التام بعد ساعتين من سماعه خبر إلقاء الحرس القومي القبض علي يوم 19 – 3 – 1963 . كما أعطتني مبلغ 15 دينار كان منها 8 دنانير مرسلة من الصديق البصري الطيب سلمان محمد النجار . استلمتُ المبلغ وقلت لنفسي أنه سيكون نافعا يوم نتحرر بواسطة النفق . كما أعطتني سميرة 3 دنانير وأبلغتني بتحيات بعض الشيوعيين ومنهم شاكر محمود ( عضو اللجنة المركزية ) حيث أطلعتني على رسالة وردت منه لها ، وفيها محاولة منه لرفع معنوياتي حيث وردت كلمات مثل : أن يوم اللقاء قريب .
كلفتُ أحد السجانين بشراء 4 مواعين كباب وعلبتين من الروثمان . رفض السجان تلبية طلبي قائلا أن من توصيات مدير السجن قبل خروجنا من دائرة السجن بساعة واحدة كان فيها تأكيد على عدم الاستجابة لأي طلب من طلبات الشراء خلال الذهاب إلى المستشفى أو العودة منها كما كان فيها تحذير شديد من خطر واحتمال هرب جاسم المطير من المستشفى . اضطرت والدتي إلى الذهاب بنفسها إلى مطعم الكباب فجلبت كمية كبيرة منه ( 10 مواعين كباب و5 مواعين تكة ) أكلنا الكباب بصورة مشتركة وقد وضع كل سجان علبة الروثمان في جيبه ثم سلما الكمية الباقية من التكة والكباب إلى احد أصدقائهما من الممرضين في المستشفى . وقد قدما شكرهما الجزيل لوالدتي حول وجبة الكباب كما قدما الشكر لي على هدية الروثمان التي جعلتهما صديقين لي ارادا تقديم اية خدمة أرغب فيها منهما بحدود الممكن . شكرتهما بدوري وهمست بأذن زوجتي أننا بدأنا الحفر قبل أسبوع ، أي في منتصف شهر أيار ، تمهيدا للهرب . سلمتني رسالة صغيرة من الحزب لإيصالها الى المنظمة الحزبية السجنية حال عودتي .
أثناء العودة من المستشفى الى السجن سألت ُ أحد السجانين عما يشاع حول السجناء واطلاق سراحهم ، أخبرني أنه لا يعتقد بصحة الاشاعات ، بل أنهم في سجن الحلة يتلقون تعليمات مشددة من مديرية السجون العامة ومن وزارة الداخلية على ضرورة ضبط السجن والسيطرة عليه وعلى السجناء . وقد كان هذا السجان مثل غيره من السجانة يعتقد ان الحرب مع اسرائيل ستقوم حتما وأن من المحتمل نقل السجناء من الحلة الى مكان آخر . أشار السجان الثاني أن المكان الآخر هو نقرة السلمان .
نقلت هذه الاخبار إلى نصيف الحجاج وآخرين حال عودتي من المستشفى . اقترحت ضرورة مضاعفة الجهود بالعمل بقصد الإسراع بانجاز نفق الهرب كي لا تفوتنا الفرصة الثمينة المتوفرة حاليا والتي يمكن أن تضيع من بين أيدينا إذا ما قامت الحرب ، إذ ربما يصبح نقل السجناء من الحلة الى نقرة السلمان أمرا واقعا .
حول خارج السجن كنا نراقب الاوضاع ايضا . الاحداث كانت تتطور وتتسارع أيضا . كنا ندرك أن جمال عبد الناصر يواصل ضغطه على عبد الرحمن عارف رئيس الجمهورية وعلى الحكومة العراقية بهدف ضم العراق الى اتفاقية الدفاع العربي المشترك التي عقدت بين مصر وسوريا والاردن . كانت الحكومة العراقية مترددة في الانضمام مما جعل عبد الناصر يواصل ضغطه على عبد الرحمن عارف الذي كان عبد الناصر نفسه سببا رئيسيا في تنصيبه رئيسا للجمهورية بعد مقتل شقيقه الرئيس عبد السلام عارف في حادثة طائرة الهيلوكوبتر بالبصرة . وقد نجح عبد الناصر في ضغطه على عبد الرحمن عارف الذي قرر الانضمام لاحقا إلى اتفاقية الدفاع العربي المشترك يوم 4 حزيران اي قبل يوم واحد من قيام العدوان الاسرائيلي على جمهورية مصر العربية .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة