السياسة خدمة مو فرهدة

بعد أن استأصل المشرط الخارجي النظام المباد، وجد العراقيون أنفسهم أمام فراغ سياسي لا مثيل له، مما سمح لنوع من القوى والجماعات كي تندفع لسد شيئا من ذلك الفراغ الهائل، قوى وجماعات انتفخت بشكل غير طبيعي وفي وقت قياسي، بفعل المناخات والشروط التي سمحت لها بشفط قسم واسع من أسلاب ذلك النظام. جيل من “الاحزاب” وسكراب النقابات والتنظيمات تقبع في قعر اولوياتها الوظيفة التي وجدت من أجلها (خدمة الشأن العام) مما الحق أفدح الاضرار بما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، مرحلة هي أحوج ما تكون لدور الاحزاب والتنظيمات السياسية بالمعنى والمعايير المعروفة عنها وطنياً واممياً. قبل أن يتمكن النظام المباد من سحق أساس قوة العراقيين وسر ديناميكيتهم (التعددية السياسية والثقافية) كانوا يتصدرون بلدان المنطقة بما يمتلكونه من تنظيمات تمثل تلك التعددية، وقد ضم غير القليل منها؛ ملاكات وزعامات تضع نصب عينيها مهمة خدمة الشان العام بكل قواها، وشهد التاريخ الحديث تضحيات الكثير منهم في سبيل تحقق مطالب وحقوق شعبهم العادلة والمشروعة.
لقد نبهنا في مقالات سابقة الى ضرورة وجود الاحزاب السياسية كشرط لابد منه لاي نظام ديمقراطي، أحزاب لا تتحول الى مركز جذب لقوارض المجتمعات ومكان لتجمع المسكونين بوباء الفرهدة، كما حصل قبل زوال النظام المباد وبعده. وهنا ينبغي الاشارة الى ان عجزنا عن امتلاك وتأسيس مثل هذه الاحزاب حتى هذه اللحظة، يعود لحزمة من الاسباب تتمحور غالبيتها في اسلوب انتاج الخيرات المادية المعطوب، والذي هيمن على تفاصيل حياتنا (افرادا وجماعات) مع طفح الحروب والقادسيات والتي ما زالت مستمرة رغم مرور 16 عاماً على “التغيير”. ان نمط اقتصادنا الريعي المشوه، والذي حول الاجهزة الحكومية الى ما يشبه الجمعيات الخيرية، حيث انتفخت اعداد المنتسبين لها الى اكثر من اربعة ملايين موظف حكومي، مقابل يباب لا مثيل له في القطاع الخاص وما رافقه من اندثار للطبقة الوسطى، يشكل الاساس الذي يفرغ كل محاولة جادة لتأسيس الاحزاب من محتواها ووظائفها التي اشرنا اليها. هذا الخلل البنيوي والتاريخي لن يلتفت لسيول الشعارات والهتافات وكل ما يدونه البعض من احلام وتمنيات بواقع جديد ومغاير.
ان مشوار الانتقال من “أحزاب الفرهدة” الى ضدها النوعي والتي تضع نصب عينيها مهمة خدمة الشأن العام وما يرافق ذلك من وعي ومشاريع وخطط؛ ما زال طويلاً وفقاً لابسط معطيات المشهد الراهن والذي استردت فيه القبائل والطوائف والعشائر لفتنتها وسطوتها. ولن يمر وقت طويل حتى تجد الاحتجاجات الاخيرة ومن يمثل مطالبها الواقعية والمشروعة، أنفسهم أمام هذا التحدي الذي لا يمكن الالتفاف عليه أو الزوغان منه. بعيدا عن العواطف الجياشة وكرنفالات الحماسة وما يرافقها من اسقاط متهور للتمنيات على صخرة الواقع، فان المعطيات الفعلية في هذه المنازلة (استبدال احزاب الفرهدة باحزاب الخدمة) ستفرز امكاناتنا الفعلية عن هلوسات المسكونين بوهم حرق المراحل والتحليق على بساط ريح الطوباويات والمدونات الحالمة. كي تسترد السياسة هويتها ووظائفها المجربة في عمليات بناء وصناعة البلدان والامم، ولأجل ان تتمكن الاجيال الجديدة من وعي مثل هذه الحاجات الحيوية؛ نحتاج الى رص كل الامكانات والجهود بمواجهة سيول الضخ الديماغوجي وتقليص مساحة تأثيرها على الأجيال الجديدة والتي يفترض بها ان تنهض بوطنها الجديد عبر اعادة الروح للتعددية الحزبية والسياسية والثقافية…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة