صادق الازرقي*
ما الذي أمات روح التضامن الانساني لدى الفرد العراقي؛ وما الذي نحتاج اليه لقطع دابر الهلاك الجماعي للعراقيين في محارقهم المتفاقمة؟! لن نتحدث عن أمجاد غابرة يتحدث بها مولعون بمدونات التاريخ، و أساطيره، فتلك امور ليس لها علاقة بسعينا لتكريس انماط الحياة الاجتماعية التي نسعى اليها.
ان تجارب شعوب العالم، تبين لنا مقدار اتساع الهوة الكبيرة التي وقعنا فيها، وعجزنا عن تحقيق ابسط متطلبات الحياة الضرورية، فاختراع العراقيين القدماء للعجلة بحسب ما يقول المؤرخون؛ لم تنفع في ايصالنا الى الحاضر الذي نتمكن فيه من صناعة عجلة جديدة، بل بتنا نستوردها وعلى نطاق واسع من الصين .. اما مسلة حمورابي، التي قالوا انها تحفل بتشريعات العدالة؛ فحققت لنا العدالة في الموت، الذي اصبح يطال العراقيين صغارهم وكبارهم، رجالهم ونساءهم، أخيارهم و أشرارهم؛ وهكذا وقعنا في الالتباس العظيم و أصبحنا غير قادرين على الخروج من أسره، فتماهى الجميع مع الموت الذي يبدو ألا فكاك من سطوته!
سبقتنا شعوب أخر، كانت اكثر وحشية من أسلافنا، وسرعان ما ارتقت الى التحضر وافتتحت دروب السعادة في ظرف قرن او قرنين من الزمن، اما نحن فتراجعنا الى اطوار بدائية تحفل بالانتقام والتربص بالآخر، والغدر به والتجسس عليه؛ بل والفتك به بوحشية يندر ان تجد لها مثيلا .. فما السر في تمكن الهلاك منا؟!
قبل سنة 1066ميلادية كانت ما تسمى بشعوب الفايكينغ»التي تعني القرصان في اللغات الإسكندنافية القديمة»، الذين تشملهم الدول الاسكندنافية، وهي السويد والدنمارك والنرويج وآيسلندا، يعرفون بطبعهم السيئ وطبيعتهم الوحشية بحسب المصادر التاريخية؛ و كانوا يغزون الدول المحيطة بكل همجية، ولكنهم سرعان ما استقروا في الأراضي التي هاجموها، وبسبب اهتمامهم بالتجارة، بحسب ما يذكر المؤرخون شجع «الفايكنغ» النمو الحضاري، وأسسوا العديد من المدنِ والبلدات، مثل يورك في إنجلترا، ودبلن في أيرلندة، التي ظَهرت كمراكز تجارية بارزة.
وها نحن نرى احفاد هؤلاء المعاصرين في تلك الدول يمتلكون ارقى الفنون والآداب و المنجزات العلمية، بل ان طبائعهم النفسية والاجتماعية، قد ارتقت الى درجات عليا من الرفعة والسمو يحلم بها أي شعب يطمح لنيل السعادة والحبور في دنياه المعاصرة.
فكيف ارتقى هؤلاء سلم الانسانية، وتغلبوا على وحشيتهم وقسوتهم، في تلك المدة القصيرة من التاريخ، في حين رجعنا نحن القهقرى؛ لننشئ مدناً بائسة تحفل بقاطعي الرؤوس والقتلة والمجرمين، وتزخر بمظاهر الكره والقسوة والحقد وانعدام الشعور الانساني؟! بل ما معنى ان نتحدث عن منجزات السومريين والفراعنة، وغيرهم من الذين يفاخر البعض بالقول اننا احفادهم؛ اذا كان نتاج ذلك التاريخ، ضروباً من انعدام الضمير والقتل الجماعي والتهجير على نطاق واسع، ومحاولة فرض الرأي على الآخر، حتى اذا تطلب ذلك قتله بدعاوى تنفيذ قيم ما انزل الله بها من سلطان!
ان الادعاء بالفضائل والتميز، والتاريخ الوضاء، لن ينفع في بناء حياة معاصرة قويمة، وفي هذا يقول الفيلسوف و الشاعر ألالماني نيتشه «التوق الى السيادة.. تحت نظرهِ يزحف الإنسان ويركع وينحني ويخفض جناح الذُلّ.. ويغدو أحطّ من ثُعبان أو خنزير؛ الى أن يصعد صراخ الإحتقار الأكبر من داخلهِ بالنهاية ! ..تُعساء اُسمّي كلّ أولئك الذين لا خيارَ لهم سوى هذا الخَيار: أن يغدوا حيوانات شرسة ,أو مُدجني حيوانات شرسين .. أبداً لن أبني لي كوخاً للسكن بين هؤلاء !».
لقد اختصرت الشعوب الحية دروس وعبر التجارب والمحن، و استوعبتها و تعلمت منها جيداً، وادركت ان البقاء في اسار الماضي لن ينفعها، بل يتسبب في كوارث لا نهاية له، لأجيالهم اللاحقة، لذا نرى انهم في سعي حثيث لتكريس حياتهم الانسانية الجديدة، على انقاض الحروب، التي اثارها متوحشوهم ايضا في غفلة من التاريخ، ولكن تلك الشعوب لم تقبل ان تبقى اسيرة لوقائعه، فزمنهم هو غير أزمان التاريخ السابقة؛ ووجدوا ان البقاء في اطار الماضي يتسبب في هلاكهم لا محال، فتساموا عن ذلك وتجاوزوه الى حياتهم الراهنة.
نحن في العراق اصبحنا مثل «بلاع الموس» كما يقول المثل، فلا نحن استطعنا اكمال ابتلاعه، للانتقال الى المرحلة اللاحقة من معالجته، وليس باستطاعتنا دفعه الى الفم خارج البلعوم، وهكذا تأصلت محنتنا وتنامت وتفاقمت، فأصبحت سجايا الكراهية والحقد والقتل اليومي، لصيقة بهذا الزمن العراقي الحزين؛ الى الحد الذي احتار فيه الناس الى أي وجهة يتجهون، والى أي ملاذ يعتزلون؛ فزادت اعداد الموتى والنازحين والمهاجرين الى بلدان اخرى، واصبح الناس في حيرة من أمرهم، متى يأتي الخلاص.. وكيف؟ و بين هذا وذاك يتواصل الموت اليومي والخراب وغياب معالم الحياة الجميلة.
*من أسرة تحرير الصباح الجديد