مهارة تأهيل النهاية البديلة

القصص القصيرة جداً: (مدونات ارملة جندي مجهول) لعلي السباعي – التنصيص والتقصيص

محمد يونس محمد

هناك وجه عام للقص، وهذا الوجه تاريخي، وله مساحة سيرورة واسعة كبيرة جداً، وهو يهيمن الى حد ما على التنصيص، فاغلب الكتابات النصية في تاريخ القص، منها من خرج عن هذا الجنس العام، ودخل في نص آخر، فالقصيدة النثرية كان لها دور استفادت به ممن سبقها وهو النوع الشعري المعروف بالتفعيلة، حيث هناك افق مكاني وزماني، وحتى حوارات أحياناً، وهذا ما جعل قصيدة النثر احياناً تأخذ شكلاً قصصياً، وهذا كان في فترة حرجة من الحداثة، حيث توسعت سمة النص في الكتابة اكثر مما يسعى الكاتب بتجريبه الحاد الى التجنيس، بل هناك كتاب لهم اهميتهم عالمياً، هربوا من التجنيس، معتمدين على فكرة حساسة طرحت ازاء تداخل الاجناس، وهذا الدخول عفوي وفطري، ولا يوجد هناك قصد بالكتابة الا الذين فروا من التجنيس، لكن الغالبية هم يهتمون اولاً بالتجنيس، ومن ثم يأتون الى التجريب الفني في الكتابة، ولعلي السباعي فهم ووعي لأليات الكتابة، ففي مجموعة – مدونة ارملة جندي مجهول – هناك دخول منهجي من الاطار التجنيسي نحو النصية، وقد استغل بوعي ذلك الدخول الحيوي في التزام نظام الكتابة، ومن ثم دخل في التجريب، ففي هذه المجموعة هناك اكثر من فكرة تدل على رغبة نوعية للتجريب، فهناك مثلاً مدخل تجنيس ومن ثم تقابل نص قصصي قصير جداً، وفي آن آخر هناك فكرة مقلوبة، حيث نواجه النصية اولاً، وفي تحديد تجنيس تلك السمة التنصيصية، نجد هناك التزام واعٍ بآليات الجنس، ففي قصة – عازف ناسي عوده – هناك ما يسبقها كمدخل، وهو عنونة تشير الى نفسها، فكانت مدخل – مدونة الحرب – أننا سنواجه نصوصاً تدل على نفسها، لكن سنقف على جنس منضبط الى اقصى حد، فتلك القصة التي تلت المدخل، هي متكونة من عدة جمل تحمل تعبيرات لها افق عام، وهو افق الحرب، ونمت بسرعة غريبة، حيث قد اختص علي السباعي عدة جمل، او الكثير من الجمل الزائدة عن بنية الجنس القصير جداً، وقدم قصته بعدة جمل بليغة، فكرته البؤرية تناقض شكل الحرب القبيح، لذا داخل اليها من الموسيقى، فكان يهدف الى ادانة الحرب، لكن طبيعة القصة التجنيسية لابد لها أن تغير النهاية، فانتهاء الحرب الذي رقمه القاص، هو مجرد رقم داخل النص القصصي القصير جداً، لذا نجد ذلك الجندي المهتم بالموسيقى اكثر من الأحتراب، واجه مصيره بعد تصاعد الذروة الى اقصى درجاتها، فرغم نهاية الحرب قتلته قذيفة، وهذا هو القص الماهر في النصية، فمحافظ وملتزم بالسياقات التجنيسية، لكنه وسع بهذه الجمل القصيرة فكرته لإدانة الحرب، وقد قام بقتل الحرب نصياً، حيث فكرته حساسة وجريئة في ادانة الحرب البشعة جمالياً، حيث موت عازف العود ليس هزيمة معنوياً، بل هو انتصار ادبي، وتلك من اهم صيغ جنس القصة القصيرة جدا، حيث تقلب فكرة البشاعة الى الجمال .
لقد تفهم علي السباعي كيف يختار مواضيعه، فهو لا يسعى الى كتابة نص فقط، فهذا امر يمثله في سياق الكتابة، لكن هو يسعى الى ابراز هم، لذا تجد المواضيع اذا بدت بحاكية متنها اجتماعي معهود، لا يهدف الحكاية، بل يهدف تلك الضربة او المفاجأة، ورغم هول المفاجأة ، وما بها من طاقة جبارة، لا يجعلها هي الهدف فقط، بل هو يسعى الى موازنة بين النصية والقص، فالنص يسعى الى ميله الى الفن، فيما القص يسعى الى البعد الأنثروبولوجي، وتشهد اغلب نصوص المجموعة لعلي السباعي الموازنة النوعية بين النص والقص، فلا يهيمن الفن الذي تجلبه المفاجأة بسرعة هائلة لا تصد، لكن رغم ذلك يجعلها، داخلية من ذات الفكرة الاجتماعية، كي يكون هناك توافق تام بين ابعاد التفاصيل المتلاحمة بتطورها نحو النهاية المتوخاة، وبين النهاية البديلة، ففي قصة – ارملة – رغم هناك تصاعد ايقاع في جذب التفاصيل الى نهاية القصة، وهنا جاء دور النصية، فتغير الإيقاع من تصاعد الى تدنٍ، ومن ثم تصاعد، حين اجابت الارملة على السؤال، كانت الاجابة بشقي تحليل، فالشق الاول هو سيمثل وجهة النظر، التي يمثل وجهة نظر خارجية مرتبطة بالمؤلف، وهو تقريباً رأي اجتماعي متباين التداول، والشق الثاني هو فني، حيث هناك تصاعد وعي نوعي لدى كيان المؤلف الثقافي، وهذا التوفيق لابد من الاشادة بها، حيث ابدت القصة تفهما للتكافؤ بين الفن والقص .

بنية استقبال النهاية البديلة –
القصة القصيرة جداً مثال حيوي لتلازم السرد الثابت الزمن و الفن الذي يكون فيه تصاعد ذروة النهاية البديلة، حيث هي اهم ما في القصة القصيرة جداً، لأنها هي مرحلة الصعوبة الحساسة، فكتابة معالم اجتماعية هي امر يسير، رغم أن لابد على أي مؤلف أن يختار معالم مختلفة الى حد ما، ولابد أن تكون معالم القصة مثيرة وجديرة، ولابد أن تتكون بصورة متهيئة لاستقبال النهاية البديلة، وليس فقط ذلك يكون بسياق تقليدي، وانما يكون فنياً متوفقة الى الحد الجمالي، وأن ترسم الخطوات بوعي من بداية القصة الى تصاعد ايقاع لاستقبال النهاية التقليدية، والانتباه الى تبديل تلك النهاية المعهودة، الى نهاية تدهش النص نفسه مثلما تدهش التلقي، وأن اشتغالات علي السباعي في القصص القصيرة جداً، هي صراحة متفوقة ومتقدمة نوعياً، وتنم عن وعي وفهم، فهو يختار المواضيع، وليس تفرض عليه الذاكرة مواضيع، وقد قدر حتى الماضي الذي من الصعب استيعابه في جنس القصة القصيرة جداً، فهو يجعله وكأنه لحظة حاضرة، فيكون للماضي طعم مختلف، وحتى الوحدة الزمنية يجعلها ملائمة لاستقبال الماضي في انية ذلك الزمن، ففي قصة – ثأر – هناك تداخل بين لحظة القصة الآنية وتاريخ الجد، ولو ننظر الى معلم القصة، نجدها في سياق نصي، وهذا ما يؤهلها لاستقبال النهاية البديلة بيسر اكثر، حيث الفن يتوافق بسرعة مع الفن، وعلى مستوى الذاكرة ابتعد القص كثيراً عن افق الذاكرة، فليس من الممكن أن تجد في الذاكرة هكذا ظروف عاش جد ما، فهي بعيدة جداً عن المشاعر البشرية، وهي رغم انها مقصوصة، لكنها وكأنها فكرة عارية، حيث الجد اينما دفن قتيلاً يكون هناك زرع نخلة، وهذا رسم نوعي متخيل، لكن ليس فوق المعنى الواقعي، حيث نجح القاص ( علي السباعي ) في اكساب نصه نمطاً واقعياً مختلفاً نسبياً عن البعد العام، وكان هناك دور ايجابي للتاريخ، حيث أن التاريخ ساعد على قبول الفكرة قصصياً ويسر فكرتها، وايضا ساهم في دعم النهاية البديلة، فكان هناك اسهام نوعي للتاريخ، رغم أن التاريخ بوصفه ماضياً تليداً ولا يمكن الفائدة منه في نمط القص القصير جداً .
أن النهاية البديلة لا تأتي مباشرة كما يرى البعض، بل هناك تصاعد نوعي لذروتها, وهو نوع من التأهيل، والذي يمكن النص القصصي من استيعاب تلك النهاية، ومن المهم جداً أن تكون تلك النهاية البديلة من داخل التفاصيل وليس من خارجها, فذلك يخلق تصادماً بين معنى معهود في الفكر القصصي وبين معنى غريب يسعى فرض نفسه، وهذا امر عصيب في الكتابة القصصية القصيرة جداً، وقد نجح القاص المبدع ( علي السباعي )، في اكساب قصصه معنى منتجاً من التفاصيل ذاتها، ففي قصة – معركة – والتي يمثل فيها المكان وحدة اساسية، تلعب الدور في تفاصيل القصة وتنوعها ايضا, فالمكان كيان ليس بشخصي, بل متعدد الوجوه هو, ومؤكد يسهم بفاعلية كبيرة في انتاج واقع حيوي للقصة, وكان للمكان هنا في استقبال نهاية بديلة, حيث كانت النهاية إدهاشيه اكثر مما هي صادمة, حيث وجد الجند أن العدو الذي واجهوه رد بأنواع الاسلحة ليس الا مجموعة خنازير من تلك التي تسكن الاهوار, وكان المكان هو الهور, وهو مكان حساس ومختلف عن الامكنة العامة, وفي قصة – مساعدة – هناك نقل مشاعر بشرية متدنية، حيث ليس هناك الا تفسير لذات فارغة من الداخل, وكشفت لنا النهاية البديلة الكيان الداخلي للشخصية المحورية في القصة, ومن الجوانب المهمة هنا أن القاص ( علي السباعي ) قدم لنا صورة اجتماعية، سرعان ما تحولت من الهدف الانساني الى هدف ميكافيلي، وقد اعانتها الضربة الاخيرة، حيث هناك مؤشر اخلاقي في هذه القصة، وفي قصة – مساعدة – هناك معنى بديل للمعنى العام للقهر الذي مربه الشعب بعد عام 2003، وابتعد القاص عن المباشرة المكرورة، والتي لا تمنح النص القصصي اشتهاء القراءة له، وقدم لنا في القصة إنموذجاً ليس مستعاراً، بل هو ممكن الحدوث، ما دام القتل الخطأ صار جزءاً من الحياة، والقصة كانت بفكرة حيوية بعيدة عن البال العام، وهذا شأن القاص المبدع ( علي السباعي ) في اغلب القصص القصيرة جداً، فهو تجربة حيوية في الافكار الحرة والنهايات البديلة الحيوية، وقدم نماذجه في تجربته في مجموعة – مدونة ارملة جندي مجهول – وتلك التجربة الواعية للبناء والفهم الدال على كل سياقات التجربة كان فيها استثمار للنهايات الخلاقة والنوعية .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة