الفردانية !

يعتقد جمهور واسع من الناس أن الحرية الفردية حق مقدس لا يجوز التفريط به، وأن المصلحة الشخصية مقدمة على مصلحة المجموع. وليس من حق أحد أن يقيد نشاط الفرد وحركته أو يضع القيود على عقله وتفكيره.
وذهب آخرون إلى أن الرأسمالية إنما قامت على هذا الأساس، فلا اعتبار للجماعة أو الدولة أو الدين. وأن الليبرالية هي نقيض حكم الجماعة، لأنها تجعل إرادة الفرد فوق كل إرادة. وعلى أساس ذلك قال آدم سميث وجون لوك وديفيد هيوم وآخرون. بل أن شخصية شهيرة في القرن العشرين مثل مارغريت تاتشر قالت أن لا وجود لشئ اسمه المجتمع بتاتاً!
غير أن الواقع يشير إلى أن هذه الفكرة متطرفة جداً. ولا تأخذ بنظرها البيئة التي تحيط بالفرد منذ ولادته وهي مجموعة الأشخاص الذين يحيطون به. فالإرادة الفردية لا تتحقق إلا في ظل الإرادة العامة، ومصلحة الفرد لا تكتمل دون مصلحة الجماعة. وأهم مظهر من مظاهر الجماعة هو الدولة.
ولا يفترض بالدولة أن تكون منزهة عن النقص. فهي كما يرى «هيغل» ليست عملاً مثالياً من أعمال الفن، حتى يحوز على الكمال، بل مؤسسة بشرية تحتمل الخطأ والانحراف والهوى. ونظرة سريعة إلى تأريخ المجتمع البشري ترينا أن الدولة لا بد أن تكون (فاسدة) في هذا الجانب أو ذاك!
من يعتقد أن الدول التي قامت على أساس الفردانية تخلو من العيوب فقد جانب الصواب، وعليه أن يتأمل ما تشرعه من القوانين والأنظمة والاتفاقات التي تلغي الواحدة منها الأخرى. فهي دليل على أن هذه التشريعات تفتقر إلى اليقين، وأن الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهو القانون لم يستطع أن يحقق الغاية منه وهي الحرية، إلا بعد سلسلة من التجارب والإخفاقات والتعديلات، وهكذا.
هناك دول عديدة قامت على نموذج آخر غير الفردانية، مثل اليابان وكوريا وسنغافورة، استطاعت أن تحقق طفرات نوعية. وهذا ما يعطينا نحن بعض العزاء. فالبلاد المشرقية عموماً تؤمن بالإرادة العامة كوسيلة لحفظ حقوق الفرد وليس العكس. وهي أبعد ما تكون في تركيبتها عن الفردانية.
إن الفرد – أي فرد – لا تكتمل حريته إلا حينما يصبح وحدة عضوية في الدولة، لأن مصلحته الذاتية لا يمكن إشباعها إلا في إطار الدولة. ولن يستطيع تحقيق أهدافه إلا حينما يخضع للقانون الذي تضعه، ولا يضمن حقوقه إلا بمقدار ما يحقق واجباته في المؤسسات الاجتماعية أو الاقتصادية العامة.
قد يبدو مثل هذا الأمر وكأنه انقلاب على الديمقراطية، لكن الواقع أننا نعيش العبث بعينه في ظل فوضى الإرادات الشخصية. فالمعقول الذي يتطلع إليه الناس، وتتوق إليه النخبة، وتحلم به فئات كثيرة، لم يولد بعد. إن هذا العصر بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في هذا النطاق البشري هو عصر اللامعقول. وهو ذاته الذي جعل من التقدم هدفاً لا يسهل بلوغه، وغاية لا يمكن إدراكها.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة