حسن خضر
ينشر بالاتفاق مع صحيفة الأيام الفلسطينية
اعتداء الشرطة على متظاهرين أمام مجمّع المحاكم، في رام الله، غير مقبول. ومع ذلك، إطلاق المتظاهرين شعارات تخوّن السلطة والشرطة غير مقبول، أيضاً، وإن كان لا يقع تحت طائلة العقاب، بحكم انتسابه إلى قيمة الحق في التعبير. أفضل وأسوأ ما في قيم الديمقراطية أنها تعلّم فضيلة الصبر على السخافة. تخوين السلطة والشرطة جارح، بالتأكيد، ولكن التسامح أكثر استراتيجيات مقاومة السخافة نجاعة، أما الضيق بآراء المخالفين، حتى وإن كانت سخيفة، ولأنها فعلاً سخيفة، فيدل من جانب الأنظمة السياسية على ثقة أقل بالنفس.
وما يسترعي الاهتمام في الحادثة المعنية هتاف أطلقه بعض المتظاهرين: «لا سياسة ولا بطيخ، بدنا رصاص وصواريخ». بداية، ينبغي غض الطرف عمّا يسم هذا الكلام من ابتذال، فما علاقة السياسة بالبطيخ؟ ليس من اللائق بعد مائة عام من نشوء الحركة الوطنية الفلسطينية وقوع السياسة في هاوية بلاغة كهذه، واستمراء ما في السجع من تطريب. وإذا صعدنا بالنقاش إلى سويّة أعلى، أي المستوى الدلالي، فإن فيه ما يضع الحرب والسياسة على طرفي نقيض، على الرغم من حقيقة أن الحرب تعني تحقيق أهداف سياسية بوسيلة القوّة. لا حرب بلا سياسة. لذا، تتجلى في شعار كهذا نظرة ملتبسة إلى الحرب والسياسة على حد سواء.
وقد يعفينا شخص ما من كل هذا بالقول إن المفردات مجازية، ومفادها أن طريق المفاوضات مسدودة، وأن ما يصعب حصره من مشاعر وتجليات الإحباط نجمت عن انسداد أفق الحل السلمي التفاوضي، وأن العنف طريق الخلاص من الاحتلال. وعلى الرغم من جدوى وجدية وجدارة تشخيص كهذا، إلا أن تشخيص المشكلات السياسية لا يخضع للمعايير نفسها المتبعة في علوم الطب والفيزياء والرياضيات، التي لا تتغيّر إلا بعد ثورة في المنهج تزعزع نظرية مُعتمدة بكشوف جديدة.
علاقة السياسة بالعنف ليست جديدة في تاريخ الفلسطينيين منذ مائة عام. ولا في تواريخ بني البشر في أربعة أركان الأرض. وبقدر ما يعنينا الأمر، نشر يزيد صايغ، قبل سنوات كتاباً يزن عدة كيلوغرامات (هو تكلّم عن الوزن) استعرض فيه مُسوّغات، ومبادرات، وتجليات الكفاح المسلّح وتحوّلاته بين عامي النكبة وأوسلو. الكتاب على قدر كبير من الأهمية، لكن التذكير به، هنا، يستهدف القول إن لعلاقة كهذه تاريخها، أيضاً. لذا، يستحيل الكلام عنها في معزل عن تاريخها، وعمّا تجلى فيه من عبر، وحكمه من قوانين.
لن ينتظر أحد من وطنيين غاضبين انفاق الأيام والليالي في قراءة التاريخ المذكور، وغيره، قبل الانخراط في فصيل، أو تنظيم تظاهرة من نوع ما. ففي تفاصيل حياتهم اليومية، تحت الاحتلال، وفي الذاكرة الجمعية العائلية والعامة، ما يكفي لاستخلاص العبر، والتفكير في خارطة طريق، عبر تجارب شخصية تماماً، ومؤلمة في أغلب الأحيان.
ولكن انفاق الأيام والليالي مطلوب من العاملين في الحقل الثقافي، للتدليل على حقيقة أن التجربة الذاتية لا تنوب عن المعرفة، ولا تصلح للقياس. لذا، وبقدر ما يتصل الأمر بعلاقة السياسة بالعنف في تاريخنا، فإن ما نجم عنها، وتجلى فيها، وحضّ عليها، لم يكن مُحصّلة عوامل ذاتية (فلسطينية) معزولة، بل نجم عن تدخلات، وتفاعلات، وصراعات عربية وإقليمية ودولية، في ظروف مُتغيّرة.
ربما كان من المستحيل نشوء الحركة الفدائية الفلسطينية في أواسط ستينيات القرن الماضي (أنشأت هوية وطنية قويّة، وأعادت الشعب إلى التاريخ) في معزل عن الحرب الباردة العربية ـ العربية، والحرب الباردة بين المعسكرين الكبيرين على صعيد العالم، وصعود حركات التحرر القومي في المستعمرات. وقد كان من المستحيل، أيضاً، ظهور الإسلام السياسي الكفيل بتدمير ما أنشأته حركات التحرر القومي من هويات جديدة، في بلدان عربية مختلفة، في معزل عن تداعيات وملابسات وتفاعلات الحربين الباردتين العربية والكونية، وأثرها المباشر على مجتمعات ودول أغلبها في طور التكوين، وطفرة الثروة النفطية.
بمعنى أكثر مباشرة لا إمكانية لكل كلام محتمل عن العلاقة بين السياسة والعنف في العام 2017 إلا بلغة ما حصد العام 2017 من أعوام سبقت. على خلفية كهذه، وبقدر ما أرى، ينبغي ألا نسقط من الحسبان إمكانية أن يكون خيار اللجوء إلى العنف مدخلاً لصعود الدواعش في بلادنا. لا يمكن التشكيك في صدق نوايا الوطنيين الغاضبين، ولا في ابتعادهم بالمعنى الأخلاقي والسياسي والثقافي والإنساني عن الدواعش بعد الأرض عن السماء. ولكن، في كل الأحوال، لسنا أفضل، ولا أكثر ذكاء، أو وطنية، من السوريين، والليبيين، والعراقيين، واليمنيين. ولا توجد لدينا سلطة أقوى من سلطة الدولة المصرية، التي تجابه تحدياً جدياً من جانب الدواعش في سيناء.
في ظاهرة الدواعش ما يتجاوز لافتات كالقاعدة، والنصرة، ودولة البغدادي، ويضم أطيافاً واسعة من المتأسلمين القدامى والجدد (القاعدة أصبحت ظاهرة عامة، كما قالت الجزيرة القطرية قبل سنوات) واللاعبون الإقليميون والدوليون، وإلى جانب كل هؤلاء، وفي ركابهم، يصعد الزبّالون (scavengers) أي مَنْ يقتات من بشر وحيوان على بقايا وفرائس فتك بها أقوياء، أو خارت قواها. ولن يتوقف ظهور هؤلاء، أو مَنْ خلقته ظروف متغيّرة على شاكلتهم، في مكان من دون غيره.
هذا التعبير مُستمد من عالم الغاب، فعندما تهد الأمراض أو الشيخوخة أسداً، تنقض عليه الضباع وبنات آوى وصغار الثعالب. بين الدول والبشر والمجتمعات مَنْ يشبه حيوانات الغاب القوية في زمن الفتوّة والشباب، ومَنْ تنال منه الضباع وبنات آوى وصغار الثعالب، إذا ما خارت قواه، وسقط على الأرض. وهذه في استراتيجية الدواعش مقدمة «لإدارة التوّحش». في مقالة مقبلة نُفصّل أكثر.
السياسة والعنف (1-2)
التعليقات مغلقة