جماليات التضاد في الحركة (The Move)

عبد علي حسن

يندرج العرض المسرحي الأول لجماعة ( رواصد ) –الذي قدم في ساحة الطابق الثاني من Bcd مول وسط مدينة الحلة مساء يوم الاثنين 15/7/2019، واعيد عرضه في ساحة اعتصام حملة الشهادات العليا امام وزارة التعليم العالي مساء يوم الأحد 4/8/2019 –، ضمن عروض المسرح المضاد شكلا ومضمونا ، فعلى صعيد الشكل فإن العرض لم يخضع للتتابع الكرونولوجي الذي يفترض الحكاية والحدث وتطوره منذ البداية وحتى نهايته التي تشهد عادة وضع الحلول للمشاكل الدرامية التي يفترضها العرض ، اذ كان العرض ووفق العنوان Move يعتمد عرض حال مجزأ الى اجزاء علاماتية يتم تجميعها في نهاية العرض لتشكل الرؤية الفكرية والجمالية التي حرص العرض على تقديمها ،
اذ سعى نص العرض المسرحي الى تفكيك العلامة اللغوية واستبدالها بمنظومة السينوغرافيا وعلامات الجسد التي ستنهض بالمهمة التواصلية مع المنظومات الحسية والحدسية للمتلقي ، عبر البحث عن القرائن الدلالية للعلامات الصوتية والبصرية التي اعتمدها نص العرض المسرحي في بث خطابه المضاد معرفيا وجماليا ، ولتكون أيضا — هذه المنظومات — غاية لتفعيل قدراتها في تشكيل حركية الممثل الوحيد في وسط أدواته ، ووفق هذا المنظور اجتهد نص العرض المسرحي ( The Move) في إقامة اكثر من جسر تواصلي بين المتلقي ومجريات العرض ، وهو من اعداد واخراج وتمثيل الفنان المسرحي المثابر والمتجدد حسن الغبيني واعضاء المجموعة ، اذ حاول المخرج أن يضمن نص عرضه المسرحي بنية الإفصاح المركب الذي تأثث على مرتكزات اكتسبت علامات ايقونية مفضوحة الدلالة وأخرى اكتسبت وضعا إشاريا امتلك قدرة ترميزية حفزت المتلقي على اعادة انتاج تلك العلامات الاشارية وفق بثها خطابا ترميزيا استوجب التأويل ، وأزاء ذلك فقد استخدم العرض منظومتين من العلامات افصحت عن مرادها بطريقتين مختلفتين، بدءا من دقات الطبل التي كانت ايذانا وسحب انتباه الجمهور الى ان بيانا سيلقى على المسامع نزولا عند ساحة الطابق الثاني — منطقة العرض — ساحبا خلفه حشدا من الجمهور ، فالطريقة الأولى هي الأشياء التي وضعت على طاولة شغلت حيز العرض بطريقة استعراضها الواحدة بعد الأخرى تشبه الى حدما عرض الساحر للعبه السحرية ، وقد حملت دلالات مكشوفة ومألوفة بالنسبة للمتلقي ك (القامة) وحبوب المخدرات واشنوطة الانتحار والكتاب الذي تعرض للتمزيق فيما شكلت العلامات الأخرى إشارات ترميزية كصوت الغراب الذي رافق مجريات العرض منذ البدء حتى نهاية العرض وكذلك القناع الأسود الذي غطى معظم وجه الممثل ، يضاف الى ذلك الشريط الأصفر الذي يستخدم عادة بعد تعرض منطقة لفعل اجرامي كالقتل او انفجار اذ أحاط به الممثل منطقة العرض المسرحي ليشير به الى وجود وضع غير طبيعي ومستهجن يلفت الأنظار الا ان هذا الشريط قد عزل مجريات العرض عن الجمهور علما ان الممثل قد خرق تلك العزلة عبر علاقات بسيطة مع المتلقين شكلت تغريبا واضحا مما جعل شريط العزلة الأصفر عديم الجدوى ، أما صوت الغراب فقد كان ممتلكا دلالته القريبة الراكزة في صندوق المخيال الجمعي كونه نذير شؤم ليشير الى حالة الانتهاك التي يتعرض لها الشخصية المونودرامية المحاصرة بكل الفواعل السلبية المبعدة لأي فعل اجتماعي ايجابي نتيجة لمحاصرتها من جميع الاتجاهات بضغوط طبيعية وغير طبيعية ، ولعل استمرار صوت الغراب اشارة واضحة الى استمرارية الوضع الانتهاكي لعوامل وجود الشخصية العراقية،
لقد تجاوز شكل العرض المسرحي للعديد من الثوابت التي درجت عليها العروض المسرحية بدءا من اختيار المكان وطريقة التواصل مع الجمهور واستخدام علامات جديدة انفتحت على قراءات عديدة ، صبت في النهاية بمجرى رصد مواجهات الشخصية العراقية لعوامل يأس وخذلان قد تؤدي الى اتخاذ قرار بالانتحار ومغادرة العالم ، فإن حصل ذلك على مستوى الوقائع اليومية ، فإن العرض توصل الى حل مفاده ضرورة مواجهة الاحباط واليأس والتهميش والاقصاء ، فالحياة جديرة بأن نحياها على الرغم مما يعيق دون تحقيق الحد الأدنى من العيش ، وقد تبدت هذه الرؤية في نهاية العرض المسرحي ، فحين استكشفت الشخصية الأوضاع المزرية التي يعيشها الفرد العراقي وعلى كافة المستويات واستحالة تغيير هذا الوضع ، تلجا الشخصية الى الحل الأخير وهو الإقدام على الانتحار عبر مشهدية جميلة ، فيتقدم ممثل آخر ليقطع الربطة التي اشارت الى حبل المشنقة ، ليشكل هذا الفعل موقفا جمعيا يحول دون ان يأخذ اليأس فعله التراجيدي في مغادرة الحياة كاعتراض على مايسود من اوضاع بعيدة عن الحدود الدنيا للعيش الكريم .
لقد انسجم شكل العرض المسرحي الذي اكتفى بالعلامات البصرية والسمعية في بث دوالها مع المضمون الذي شكل تضادا مع مايجري في حراك الواقع العراقي مكونا جماليات استأنس الجمهور في توصلاته الدلالية ، على الرغم من الرصف السريع لمجموعة من الظواهر الاجتماعية والاخلاقية ، وقد كان بالامكان رصد واحدة من هذه الظواهر واشباعها بمنظومات دلالية متسعة خاصة اذا ماعرفنا مايتمتع به الفنان الغبيني من قدرة ابداعية في تخليقه للعلامة واستثماره لمرونة وطاقات جسده الحركية والأدائية ، تحية لفريق مجموعة (رواصد) الذين امتلكوا الجراة والايمان بتقديم الواقع العراقي بالشكل والمضمون الجمالي الذي امتعنا مؤكدين بعرضهم هذا على امكانية تقديم المضاد بجمال ابداعي ، تحية للفنان احمد ضياء ووسام علي والياس سلام وعمار ذياب ومضر محمد وكل من اسهم في نجاح العرض الذي يغرينا بانتظار (رصد) جديد..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة