السرد المتصل في.. قسطرة

يوسف عبود جويعد

من السمات واللمسات الفنية الجديدة، التي تضمنتها الرواية الحديثة، هي نقل الوقائع ذات الجانب الذي يعكس صدق الحياة، التي يتناولها الروائي من خلال إظهار البيئة، وعمق إنعكاسها على دورة الأحداث، وكذلك تكون ضمن الملامح الرئيسية للشخوص، وكذلك الإهتمام بالاختيار الصائب لزاوية النظر التي تنطلق منها الأحداث،إضافة الى السياق الفني لفن صناعة الرواية واللمسات الفنية التي تساهم في إنضاج ورفع مستوى ظهورها ضمن حركة السرد ،وهكذا نجد في رواية (قسطرة) للروائي ناظم جليل الموسوي، ظهور تلك الملامح من خلال بطل هذا النص، الذي ظل رغم المتغيرات التي سوف نمر عليها متمسك بها، كجذور أساسية تعكس تربيته التي نشأ فيها، وهي حياة الارياف التي كانت مضمرة ضمن سلوكه وطبائعه وخط سيرحياته، فهو متجذر من طبقة فلاحية لكنه زج في حياة المدينة، وقد إنطلق الروائي من الجانب الانساني البحت في عملية سرد الأحداث، وجعلها البؤرة الاساسية التي تكسو فضاء السرد، ثم جعل اللغة السردية منبعثة من تلك العلاقة الإنسانية الكبيرة بين الأم وأبنها، وخاصة عندما يهدد المرض الام، وتكون في حالة صحية سيئة وقريبة من النهايات، فأن الأبن يستنفر كل طاقته، وكل احاسيسه، وكل همته، وكل أحزانه من أجل إنقاذ الأم التي أستنجدت به لأنقاذها من الآلام المبرحة ومن مرضها الذي هو قاب قوسين او ادنى من الموت، وقد إستغل الروائي هذا الحس الفطري الذي وضعه الخالق في حب الابن لامه كونه يجدها جزء من كينونته وحياته وطفولته وصباه، ويجدها الحضن الدافئ الذي ترعرع فيه، ويجدها جزء من وجوده وتاريخه، ولا يمكن له أن يتخيل حياته، بدون أن تكون الأم الخيمة التي ينضوي تحتها، من عمق هذا الأحساس النابع من أعماق روح وقلب الأبن تنطلق الأحداث بلغتها السردية الحسية التي نلمسها ونتحسسها معه، ونحس حرارتها وهو يقود الاحداث (أي بطل النص) سارداً وحيداً لها:
( خبوتُ كالطفل نحو سريرها ساعياً بقطع مشاهد الموت مُردداً أمّي، أمّي مربكاً وقفتُ، وأنا أرى هستيريا جسدها وهو يأخذني إلى الصراخ كالملدوغ متمنياً تأجيل فرارها مع الرحيل، أُذناي تطلقان صفيراً وصراخها عَبَر جدار الغرفة وليس بيدي إلا أنّ أُردد وراءها كببغاء حفظ نشيد الألم دفعةًّ واحدةً تضامناً مع صراخها وألمها!!) ص2
وكذلك وتلقائياً وبدون أي تمهيد تتحرك الأحداث بتدفقها وشحنتها الإنسانية التي ظهرت من خلال قيادة جمال لمهمة إدارة دفة الأحداث من عمق هذا الأحساس ليظهر مسار آخر لحركة السرد، وهي الرؤية الثانية التي نشأت بسبب الوضع المتردي في البلاد، وحالة الخراب، والحرب الدائرة، وظهور المسلحين ليلاً لايقاف أي حركة، فكانت مهمته شاقة، إذ يتوجب عليه حمل أمه على ظهره والسير بها في طريق محفوف بالمخاطر، بل أنه محفوف بالموت، وقد إستعان بصديقه عامر لكون قواه قد خارت،ولا يمكن له أن ينجز هذه المهمة لوحده فهو يحتاج لصديق يقف معه، كونه يحمل أمه التي حملته وهناً على وهن ، هو الآن يضعها على ظهره:
( الليل سخَّر جندهُ واسلحتهُ، وأشدها فتكاً الخوف الذي طاردنا ومدَّد نفوذه أكثر فأكثر، إلى أين سيصل بي لا أدري، النتائجُ مجهولةٌ بين لحظة وأخرى نقّع في متاهة الطريق.) ص 6
وهكذا فأن هذين المسارين هما فضاء السرد وديمومته في متن النص، فتارة نكون معه وهو يلتصق بإمه ويرجو نجاتها، وتارة نكون مع المسار الثاني الاحداث التي تحيطه والتي لا تقل خطورة من المسار الاول، وبعد رحلة شاقة ومعاناة كبيرة يصل الى المشفى، وعند دخوله يجدها فارغة الا من الممرضة نجاة التي تدخل خضم الاحداث وتكون واحدة من الشخوص البارزة في هذا النص، لكن مثل سيء لمهنة التمريض التي تتطلب حس إنساني كبير، حيث تعاملت مع جمال بقسوة وعنجهية عالية، وإستغلت اهتمامه بأمه الى حد الرجاء، لتقسو عليه وتعامله معاملة سيئة، وبعد اجراءات روتينية ابدتها الممرضة وإنتظاره للصباح، حيث وصول الطبيب الذي أمر بنقلها الى بغداد.
وهنا أود الأشارة أن المكان هو بين الديوانية وبغداد، ثم يقدم لنا الروائي الشخصية الأخرى والتي لاتقل سوءاً من الممرضة نجاة، الا وهو سائق الاسعاف الذي سوف يتولى مهمة نقل الام الى بغداد ( محمود التمساح)، وقد أجاد الروائي رسم ملامح هذه الشخصية بشكل أظهر فيه بشاعة تصرفاته وسوء أخلاقه، وإستغلاله المفرط لجمال خلال الرحلة، فبين فترة واخرى يهدده بترك أمه على قارعة الطريق أن لم يلبي طلباته المستمرة، الاكل، السجائر، وكذلك هو يعاقرالخمر ويتناوله بشكل مستمر أثناء قيادته للمركبة، والعبث بصافرة الأسعاف بمناسبة وغير مناسبة،وهذه الرحلة أغدق في تفاصيلها وجعلها شائقة ومبعث للاهتمام، مما تترك تلك الشخصية أثر كبير في نفس المتلقي.
وفي نقلة متقدمة من الأحداث تصل سيارة الاسعاف لمدينة الطب، والتي يجد فيها عكس ما حصل له في مشفى الديوانية، حيث الرعاية والاهتمام وإنقاذ الام بإجراء عملية القسطرة لها واعادتها الى طبيعتها، مما تتطلب الأمر سيارة أسعاف لأعادتها الى الديوانية لعدم إستقرار حالتها الصحية، ويبرز هنا الحظ العاثر، إذ أن جمال يتفاجأ بذات السيارة التي يقودها محمود التمساح هي التي سوف تقل امه، والامر الادهى والانكى أن معه الممرضة نجاة، وتدور أحداث شائقة وغريبة أثناء الرحلة.
وهكذا فأن الأحداث بلغت منتصفها، ولا زال الكثير بالانتظار، ولكن التساؤل هنا يبرز، ماذا سوف يحصل، وقد تماثلت الام للشفاء، لكن الأحداث تنتظرنا هي الاكثر أهمية، فبعد فترة وجيزة تسوء حالة الأم وسرعان ما تنتقل للرفيق الاعلى، ترحل الى ملكوت آخر تاركة أبنها يتخبط بحيرته، فيضطر لبيع بيته، من أجل اتمام مراسيم العزاء والدفن.
وهنا نتأمل بنية العنونة، هل أن القسطرة تخص الأم، أم تخص دورة الاحداث والتي سوف نمر بها، فالاحداث التي تتعلق بالام توقفت الآن، ولكن لازالت الحياة تحتاج الى قسطرة، لما تحمل من اعاجيب وخراب، وهكذا ينتقل جمال الى بغداد حيث بيت خاله، ويكمل دراسته في كلية الطب، وتنشأ علاقة جميلة أحدثت حالة التشويق وتحريك المشاعر العاطفية، وغيرت مسار السرد، هذه العلاقة كانت بينه وبين زميلة له، وتتوطدت وتكبر تلك العلاقة، وتصير مثار حديث الزملاء في كلية الطب، الا أن المسار الثاني يبرز ويظهر، فيعتقل جمال بسبب قصيدة لمظفر النواب القاها في إحتفالية الكلية، فننتقل نقلة أخرى حيث دهاليز الامن والتعذيب والسجون الانفرادية والتعامل القاسي، لكنه يخرج ويواصل الدراسة حتى يتخرج،فيعود المسار الثاني للظهور ويكون إعتقال آخر بسبب أن الطبيب جمال انقذ احد الجرحى بإخراج ثلاثة رصاصات من جسده، وهذا الجريج مطلوب للحكومة، فيمكث في دهاليز التعذيب سنة وستة أشهر بحياة ينقلها لنا الروائي تنم عن عمق بشاعة هذه المعتقلات وكيف يعيش المعتقل فيها بين التعذيب المستمر وقلة الطعام والظلام والموت الذي يحوم فوقه، ليخرج بعدها ويكتشف أن حبيبته تزوجت، وإنتهت أجمل قصة حب بينهما، فيتزوج ابنة خاله والمفاجأة أن من ولدت زوجته هي حبيبته.
وهكذا نعيش أحداث ساخنة ومتصلة ومستمرة دون إنقطاع رغم أن الفصول تحمل عناوين وحدة موضوع الفصل، الا أنها لم تؤثر على حركة السرد المتصلة المشحونة بالاحداث.
رواية (قسطرة) للروائي ناظم جليل الموسوي، كتبت بأسلوب فني شائق ومتصل معتمداً فيها على مسار فن صناعة الرواية الحديثة والمتغيرات التي ظهرت فيها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة