ذكرياتي.. فاروق مصطفى رسول

تواصل “الصباح الجديد” نشر كتاب “ذكرياتي” للمناضل العراقي الكبير فاروق ملا مصطفى، ويعد هذا الكتاب الحلقة الثانية ضمن سلسلة تهدف الى استعادة تاريخ النضال السياسي اليساري في العراق خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ويعد الأستاذ فاروق أحد الرموز اللافتة والمثابرة في مجال المعارضة السياسية للدكتاتورية والعمل من أجل عراق ديمقراطي متنور مزدهر.
وتعود معرفتنا بالأستاذ فاروق الى عقود طويلة منها سنوات العمل المشترك ولو عن بعد، في حين حفلت تلك العقود بلقاءات متعددة، منذ بداية مشاريعه الناجحة، عندما كنت مندوباً عن صحيفة الحياة اللندنية، وسمح لي الحظ أن أرافق خططه المبكرة لواحدة من ألمع التجارب الاقتصادية والتجارية في البلاد، والمتمثلة بتأسيس الشبكة الدولية للهاتف النقال التي تحولت الى شركة كبرى هي آسيا سيل وكان حلمه آنذاك أن يكون لكل مواطن في كردستان هاتف خاص به في وقت كانت فيه تجربة الهاتف فتية على المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة وكنت قد أسهمت في نشر الروح المقدامة للأستاذ فاروق وجرأته التي ارتكزت الى تجربة ممتازة في مجال المشاريع المختلفة، بدءًا من صغيرها الى كبيرها، والتي انتهت الى اسهامات يذكرها كل مواطن في إقليم كردستان وخارج إقليم كردستان.
ومن المزايا المهمة التي اشتمل عليها نشاط الأستاذ فاروق، أنه حاز ثقة العالم الصناعي الامر الذي سمح له بالتوسع والانتشار الى قطاعات أخرى كبناء المستشفيات وانشاء جامعات طبية ومتخصصة وهو ما نحتاج إليه أشد الحاجة.
كما تميزت تجربة الأستاذ فاروق في انقاذه مشاريع كانت على وشك الاندثار، كمؤسسات ومعامل السمنت في الإقليم، الامر الذي أسهم في توفير فرص عمل لمئات المواطنين وتوظيف آخرين بمناصب لإدارتهم، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية تعاصر شعبه وتهمل المدن والمؤسسات والبشر.
وفوق كل ذلك ارتفع فاروق الى الأعلى، بسلوكه الثوري الإنساني الذي عاد على العديد من اقرانه وأصدقائه ومواطنيه بالفائدة والدعم من دون أن تكون له منافع شخصية، او اهداف من قبيل نشر الدعاية الخاصة لشخصه ومؤسساته، وهذا انعكس أيضاً على الطبقة السياسية التي وجدت فيه داعماً مرموقاً ومعتمداً ومسهماً في المناسبات التي أتيحت له المشاركة فيها.
وإذ تنشر “الصباح الجديد” صفحات مشرفة لهذا المناضل، فلأنها تعد أنموذجاً للوطنية والمثابرة وحب الوطن والمواطنين.
ولا يمكن أن نتخيل مدينة السليمانية الآن بالذات، وهي المدينة التي أحبها وعشقها من دون أن نتذكر او يخطر في بالنا اسهامات فاروق وفضائله الكبيرة على مدينته، الأمر الذي يجعله موضع حب واحترام واسعين.
هذه الذكريات، انموذج للكفاح الذي أثمر أفضل ما يمكن أن يتخيله إنسان في مجال النضال الشاق والغابة السياسية المليئة بالألغام والامتحانات الإنسانية الكبيرة والقاسية.
ان تجربة الأستاذ فاروق تمنح القارئ بتفصيل ممتع نكهة الحياة والشرط البشري الذي كان عليه أن يرسمه لمجايليه وللأجيال المقبلة.
بهذه المناسبة نود أن نعبر عن امتنانا واحترامنا للتجارب التي مر بها الأستاذ فاروق ونأمل ان يشعر القارئ الكريم بالشيء نفسه.

الحلقة 7

تطهير صفوف الحزب من الانتهازيين والخونة

مرحلة طرد مصلح من الحزب
بعث إلي الرفيق إبراهيم علاوي رسالة عن طريق الرفيق كمال شاكر:
الرفيق دلير(كان دلير اسمي الحركي المستعار آنذاك):
لقد صحت آراؤك وانطباعاتك حول ظروف الحزب خصوصاً ما يتعلق منها بمصطلح مصطفى. بعد وصولنا إلى هذه المنطقة ومقر الحزب في (ناوكيلكان) اعتزمنا زيارة ملا مصطفى البارزاني رئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني وقائد الثورة.
قبل انطلاقنا لزيارة البارزاني عقدنا جلسة، أنا ومصلح وأبو أنيس لتحديد النقاط التي نطرحها في جلستنا معه، وتكونت من الوضع السياسي لكردستان العراق وموقفنا من حزب البعث وحكومته، موقفنا حول ثورة كردستان والتواصل في المشاركة فيها داخل وخارج البلد وبالتالي تنظيم وتنسيق علاقاتنا مع الحزب الديمقراطي الكردستاني وتزويدنا بالأسلحة للمشاركة في الثورة على نطاق واسع. قبل بدء الجلسة قال مصلح: لو طلب مني البارزاني ان نضرب الجلاليين وبالأخص إبراهيم أحمد وجلال الطالباني، في المدن التي نمتلك قدرات حزبية فيها فكيف سيكون موقفنا؟ فقلنا له انا ورفيق ابو انيس: سنقول: ذلك امر لا يخصنا ولا نرضى به. ولكن حين زرنا البارزاني وتحدثنا قليلاً، قال مصلح فوراً: نحن نلتمس منكم تزويدنا بالأسلحة لنتعاون مع الثورة.
قال البارزاني: ذلك أمر يسير ولا صعوبة فيه، ولكن لي طلب.. انجزوه لي. أبدى مصلح الموافقة رأسا من دون أي قيد أو شرط، خلافاً لاتفاقنا في الجلسة التي سبقت زيارتنا، وبعيدا عن أي مراعاة لسياسة الحزب، ومن دون أي إشارة أو تلميح إلينا او استشارتنا.
يقول الرفيق إبراهيم قلت: يا سيادة البارزاني لو أخذت رأينا- رأي الحزب الشيوعي العراقي- القيادة المركزية، نقول إن ما طرحه هذا الرفيق تعبير عن رأيه الشخصي وليس موقفا رسميا للحزب. ثانياً ثمة خلاف بينكم و بين الجانب الاخر للحركة الكردية لو وضعتم حلولاً لتلك الخلافات بطرق سلمية وعن طريق الحوار سينجم عنها ما يجدي الثورة الكردية والشعب الكردي والعراق عامة نفعاً كثيراً.


بعد تحليل وتفسير مجمل مواقف مصلح من بداية هجمات البعث الموسعة على القيادة المركزية وقتل وسجن الكثير من القادة واعتبار نفسه سكرتيراً للحزب والبدء بتجميد الرفاق وقمع أصحاب الرأي، والحط من اراء كوادر الحزب، صارت هذه التصرفات تثير القلق والشكوك لدى الكوادر المتقدمة، بسبب الوضع السياسي الحساس والاضطرابات، التي سادت التنظيمات بعد الضربة الشديدة التي تعرض لها الحزب، وبسبب المواقف المتخذة في تلك المدة، طالبنا بتجميد مصلح وكان لي الدور الرئيس في ذلك.
لما عاد القادة الثلاثة الى مقر الحزب، اجتمع الرفيق إبراهيم علاوي والرفاق الموجودون هناك وقرروا تجريد مصلح من السلاح وتجميده لحين انعقاد المؤتمر القادم للحزب.
كان في ناوکیلکان قوة عسكرية لبيشمركة الحزب، أشرف عليه بكر ره ش وعاونه عزيز أنور الملقب بـ(عه ز ره ش) وكان من حي كانيسكان في السليمانية، وحمل اسم آخر (عزي بهي) لم تترك والدته المناضلة الحزب حتى مماتها، وكان عزيز ابن الحزب والنضال الثوري منذ شبابه.
تواجد رفاق آخرون في ناوكيلكان، مصطفى جاورش، كمال شاكر، أكرم حبسه، جمال علي فائز، بكر هورامي ومام إبراهيم (العم إبراهيم)، كان لهؤلاء الرفاق دور رجولي فعال في صد هجمات العدو ونفذوا الفعاليات بروح الفداء والتضحية. وكان معنا أيضاً جمع آخر من الرفاق وبيشمركة الحزب: الرفيق بختيار (كمال جمال) وحيدر قصاب، طارق حادجي سعيد، سعدون فيلي، سامي فيلي، أبو سميرة.. وآخرون.
طلب الرفيق إبراهيم علاوي إعادة تنظيم لجان السليمانية وذهابي في أسرع وقت إلى ناوكيلكان، وفي بضعة أيام أعدنا تنظيم أمورنا على وجه السرعة.

  • * *
    في انشقاقات أي حزب كائناً من كان تنمو وتظهر مواقف وآراء مختلفة لا يكون بعضها أسس مبدئية. برغم قلة عدد من تكاتفوا وبقوا مع طغمه مصلح، ولكن وجد بينهم رفاق مخلصون للحزب. بذلتُ الجهد لأقابلهم على انفراد وأوضح لهم مدى تباعد تلك الطغمة عن مصالح الحزب، وكم تثير تصرفاتهم وأفعالهم، وبالأخص المغرضين منهم، الشكوك والمخاوف.
    حينما توجه إلى الحزب ضربات قاسية، خاصة من قبل الحكومة والحزب الفاشي كالبعث، فإن هذه الهجمات الشرسة لا تضعف الحزب وحده هيكليا بفقده لقياداته وكوادره، بل ان الأمر يمتد إلى زعزعة مواقف الكثير من الحزبيين وانهيار بعض الأشخاص الضعفاء الذين يفقدون الثقة يصابون بانعدام الرؤية الواضحة، ما يترك أثراً ضاراً في مستقبل الحزب ووحدته وتنظيماته.
    عادةً يشرئب بعض الانتهازيين بأعناقهم لتسلم مراكز ومناصب ومسؤوليات أكثر من قدراتهم ومهاراتهم في المسيرة الحزبية. لقد خلقت هذه الحالات أزمات تنظيمية داخلية، وخاصة بوجود قيادة جاهلة وغير مؤهلة وغير مبدأيه كقيادة مصلح مصطفى، فعلى سبيل المثال تم تصعيد عضواً بسيطاً في لجنة في أحد أحياء المدينة إلى عضو لجنة فرع كردستان بلا أي تمهيد واستعداد ومقدرة!
    صادفتنا عراقيل ومواقف عجيبة، ففي صراعنا مع مصلح ومحاولة تحجيمية لم يساندنا عدد من الرفاق المعروفين الذين وقفوا بشدة في التصدي لمصلح ومواقفه السلبية، واختار بعضهم الانزواء والعزلة، فيما انحرف البعض وتبدلت مواقفهم الفكرية من الأساس. وهذا أمر مُتوقع حدوثه في أعقاب انشقاقات تحدث في أي حزب كان، فيختار البعض الاستقالة أو تبديل الخندق أو حتى يخسرون مبدأهم وتاريخهم وتُخيّب أمالهم. على العكس من ذلك يتماسك آخرون من أصحاب المبادئ الذين يختارون درب التضحية وتقوى قناعاتهم بمبادئهم أكثر من ذي قبل.
    لا يغيب عن الذاكرة صمود وبطولات عشرات الرفاق من الكوادر المتقدمة والتنظيم الذي شتتته أيدي الانتهازيين والخونة فيما بعد، تمكننا بجهودنا المتواصلة ليلاً ونهاراً من تطهير صفوفنا منهم، وتقويتها على أسس تنظيمية وإعادة بنائها وفق أفكار وأسس الماركسية- اللينينية.
    ففي كل هجمة على الحزب يتفكك التنظيم ويتعرض للتشتت وللعُقد المستعصية، ولا يمكن التغلب عليها ما لم يبن الحزب على الفكر النظري والفلسفة المقترنة بالممارسة والتطبيق الخلاق لها.
    ذكريات إعادة تأسيس تنظيمات الحزب
    لم يكن هناك شيء أحلى لديّ من القدرة على استعادة الرفاق المنقطعين عن الحزب والتنظيمات المهمشة والمشتتة أو الواهنة، إلى الارتباط بالحزب وسعيه الجاد لتأسيس اللجان والخلايا.
    في الفترة التي أذكرها، عملنا وناضلنا في حزب لم تتورع الفاشية في بغداد عن قتلنا وشنقنا واعتقال الآلاف من أعضاء ومؤيدي القيادة المركزية، وتضرجت قبضاتها الخبيثة بدمائنا الزكية. وأستطيع جازماً أن أقول أنه لم يرتفع أي صوت في تلك الظروف احتجاجا على تلك المجازر الوحشية من المنادين بحماية حقوق الإنسان فقد سكت وتواطأ الجميع تواطأً مريباً.
    لم تحرك الحركة الشيوعية العالمية التي قادتها التحريفية السوفيتية ساكناً، في وقت كانت تتسارع لإدانة أصغر جرائم البلدان الأخرى. راق لها تضرج رفاقنا بدمائهم وكل ذلك بسبب انقياد الحزب الشيوعي العراقي (اللجنة المركزية) وراءها. فسرت اللجنة المركزية هذه الحملة الدموية ضدنا بأنها نتيجة لنزوعنا وميولنا اليسارية، وغضت الطرف عن هذه الجرائم الكبرى و انشغلت باتفاقها مع الحكم الفاشي في بغداد، فأدى ذلك إلى اختيار طريق المذلة والتوجه صوب الجبهة الوطنية مع حزب البعث واشتركت وأخيراً في حكومته. وبغية إذلالهم أكثر منحتهم حكومة البعث إحدى الوزارات (وزارة العدل)!! فقبلوها بترحاب شديد وأصبحوا جزءًا من الحملات الوحشية ضدنا. وخرج من بين الخائن صفوفنا مصلح مصطفى كما ذكرت وألحق بنا أضراراً بالغة وشغلنا لفترة طويلة بصراعات كثيرة.
    اجتزنا هذا الظرف الصعب بلا دعم أو مصدر تمويل خارجي، اجتزناه بعسر بالغ ولكن بإباء أيضاً. ولولا المساهمات الشهرية من الأعضاء ودعم رفاقنا من مدن كردستان ومن بغداد بالأخص، لتعرضنا لضائقة مالية وجوع أكثر ولشلت حركتنا لإعادة وتنشيط تنظيماتنا في كردستان ومحافظات العراق، فمن دون الإمكانات المالية لا يمكن تدبير وإدامة حياتنا اليومية والسياسية والتسليحية والتنظيمية بمختلف جوانبها.
    ففي الصراعات والأزمات المتفاقمة المطروحة أمامنا حاصرنا الخصوم والأعداء بكل ما كان في وسعهم لتضييق الخناق علينا، ولإخماد الشعلة التي استنار بها الحزب الشيوعي والحركة الوطنية في كردستان والعراق، ولجأوا إلى كل الأساليب الإجرامية واللا إنسانية وبعيدا عن كل أخلاقيات العمل السياسي بدءً من تغذية الصراعات إلى زرع أشخاص في تنظيماتنا ومقراتنا وصولاً إلى حملاتهم الخبيثة لتسميمنا وزرع الألغام لتفجير مقر قيادتنا. سآتي على هذا في موضع آخر من الفصول القادمة. لقد نُفذت بحقنا هذه العمليات من دون أن تتمكن من إزاحتنا عن مسيرتنا على درب الشجاعة الثورية.
    إن ما أذكره مفصلاً ليس لاستعادة الذكريات فقط بل هو جزء من التاريخ الذي حدث وأجده ضرورياً لجيل الحاضر والمستقبل، ليستفيدوا من هذه التجارب وليعلموا أن أعداء النظام الطبقي والفكري يستخدمون كل الوسائل والأسلحة لقهرنا، ولا يقيمون وزناً لنهج العدالة والإنسانية وهم في الأساس يناصبونها العداء.

شائعات الحوار بين
الثورة وحكومة البعث
في مطلع العام 1970 تصاعدت شائعات وأخبار حول نشوء علاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني والحكومة العراقية وذلك ببدء الحوار على مستوى رفيع بينهما. بدا أن الأحداث بدأت تمضي مسرعة، فأحسسنا من جانبنا بهذا الوضع الجديد على نحو مباشر.
هاهي سيارة عسكرية لمسؤول عراقي تمر أمامنا، ورأينا بأم أعيننا في تلك الأيام صدام حسين وحردان التكريتي. بلغنا رفاقنا ان يبنوا سيطرة مؤقتة أمام قرية ناوكيلكان ويعطوا كل من يأتي من أمثال هؤلاء صحفنا وبيناتنا الحزبية ليحسوا بوجودنا و يعلموا أننا معارضون ونعتبر حزب البعث حزباً سفاكاً وعدوا للشعب الكردي وكردستان والشعب العراقي بأجمعه.
أدركنا أن حكومة البعث أخذت تفقد قوتها وتمضي نحو هاوية الضعف والخواء، وكلت تماماً وخارت قواها عن الاستمرار في شن حملاتها على كردستان، وتكاثر على الصعيد السياسي أعداؤها في الداخل والخارج، أما على الصعيد المالي فقد أثقلت ثورة كردستان كاهلها بنفقاتها الباهظة، ومن هذا المنطلق تلجأ إلى الحوار والمفاوضات لاغتنام الفرص والاستفادة من الوقت لتنظيم نفسها وتقويتها على الأصعدة العسكرية والسياسية والمالية، ولا يتسنى لها ذلك إلا بإيقاف نزيف الحرب في كردستان.

لقاء مع الملا مصطفى البارزاني
كانت هذه المرة الأولى التقي فيها ملا مصطفى البارزاني وحيدا أو بصحبة ثلاثة أشخاص. تبادرت أشياء كثيرة إلى ذهني ودار بخلدي سؤال، ترى كيف سيكون اللقاء، خصوصاً إن هذا اللقاء يجري في أعقاب رسالة ابنه إدريس. تُرى هل يستهل بالغضب؟ أم سيكون طلبا حضوريا بغية تهدئه التوتر؟.
كان البارزاني شخصية مهيبة و رزينة، تبدو على ملامحه سمات قائد ذي تجربة وممارسة، في تلك الغرفة الاعتيادية في ديلمان عاصمة الثورة الكردية، وضعت منضدة وعدة كراسي بعيدة عن الأبهة وفي غاية البساطة، قياساً بمعايير ذلك الزمن وليس زماننا. جلست قريبا من المنضدة وكان أمامه قصاصات ورق وأقلام. استعجل في طرح الأسئلة عليّ. قال: أنت ابن ملا مصطفى؟ قلت أجل أنا ابنه. قال: فلم تفعل هذا؟
قلت: وماذا فعلت؟ قال: وهل بقي شيء لم تفعله؟ لماذا وضعت نقاط التفتيش في طريق حردان وصدام في أثناء مجيئهما إلي؟ من أنت؟ حاولت الإجابة، لكنه استبقني في غضبن خفيف، وقال: لا تقاطعني، أمهلني لأنهي كلامي. قلت: تفضل. قال: لِمَ تقطع سلك خط الهاتف الذي مدته الحكومة لي من راوندوز ونحن في الحوار؟ من أنت ولمَ تقدم على هذه الأفعال؟
-هل لي أن أجيب يا سيادة البارزاني؟
-كلا.. هلا قلت لي من أين حصلتم على المال واشتريتم 1500 بندقية كلاشنكوف وقعت كلها في أيدينا على الحدود السورية، في وقت تتسلمون منا مبلغا يسيراً لشراء السكر والشاي؟ (وكان يكرر كل مره في توتر أنت من أنت) والآن هات جوابك.
كان عمري آنذاك يبلغ تسعه وعشرين عاماً، وكان البارزاني في السابعة والستين من عمره. حسناً يا سيادة الرئيس أجل نحن وضعنا نقطة التفتيش وأعطيناهم
صحفنا وبياناتنا باللغة العربية لكي يفهموا ويفقهوا. والآن أسأل حضرتكم سؤالا، لمَ لا تستفيدون من إقدامنا على هذا العمل بدلا من أن تستشيط غضباً؟ قال البارزاني: كيف؟ قلت: أن تقولوا لهم، إن الناس والأحزاب الأخرى غيرنا لا يرضون بالاتفاق معكم، واجعلوها ذريعة وورقة ضغط لأخذ مكتسبات أكثر منهم.
بهذا الكلام بدت على وجهه أمارات الارتياح والرضى فقال: حسنا ولم تقطعون خط الهاتف؟ شرحت له أنه ليس صادرا منا، وهناك رعاة وأغنام وحيوانات وذئاب في سفوح الجبل وبين الوديان والطرقات. والحكومة مدت خطوط الهاتف على الارض وفوق الأشجار عبر هذه المسافة الطويلة، ونحن لا ندري أي شيء تسبب في قطعه، نحن نعرف أنهم يأتون ويقطعون مسافات طويلة بالسيارات من راوندوز فلو أردنا أن نسيء إلى هذا الحوار فما أسهل من نعترض طريقتهم أو نطلق الرصاص عليهم. صدقنا لسنا من فعلوا ذلك.
راق له هذا الجواب أيضاً فساد الفرح وجهه على نحو أكثر وقال: ماذا عن الأسلحة التي وقعت في قبضتنا على حدود سوريا؟ فقلت في حزن وضيق: وهل صادرتموها؟ أجاب ضاحكاً: أجل ولكن قُل من أين جئتم بها؟
قلت: يا سيادة الرئيس قبل أن أرد على سؤالك هذا دعني أسألك سؤالا.. إنك تكرر في كل مرة و تقول أنت شنو..من أنت وتستصغرني ولا تقيم وزنا لي، لو تمكنت أنا من وضع نقاط التفتيش لحردان وصدام حسين وقطعت أسلاك الهاتف وجلت الى داخل الوطن 1500 كلاشنكوف هذا يعني انني شيء!
حين تفوهت بهذا الكلام صمت البارزاني لثوان ومن دون أن يطرف له جفن حدق في وجهي وفجأة بدأ يضحك.
قال: حسنا قل لي الآن من أين جلبتم الأسلحة. قلت هناك عشرات الآلاف من الكلاشنكوف والأسلحة يحملها البيشمركة والمواطنون هل ابتعتموها بأنفسكم؟ من يمكنه شراء هذه الأسلحة كلها؟ فتح لكم بابٌ، ولنا فتحت نافذة صغيرة، في الحقيقة جاءت عبر سوريا، لا تغلقوا هذه النافذة ربما يحل يوم تحتاجونها وتفيدكم.
بدا لي أن البارزاني يستحسن كلامي فتغيرت لهجته تماما. قلت لأشرح لك الحقيقة يا حضرة البارزاني. منذ أن طرد مصلح مصطفى انقطعت علاقاتنا معكم على الصعيد المالي، نرجو أن تدققوا وتعرفوا في أي قائمة ما تزال ترد أسماؤنا لتحققوا فيها! بعد إنتهاء هذا الكلام بدأنا بالحديث عن الظروف والمستجدات السياسية وقلت للبارزاني أرجو ألا تذهب للحوار، ولا تذهب حتى إلى راوندوز للجلوس مع الوفد الحكومي. فسألني: لمَ وما قصدك؟ قلت: البعث غدار وجائر وقد يكون هذا كله خطة مدبرة لاغتيال جانبكم! ضحك كثيراً وبعد ذلك احتضنني وقبلني وقال: ابقوا في مكانكم لا تغادروه، أنتم رجال، ومخلصون لنا ولكردستان. وانتهت الجلسة بطلبي أسلحتنا وعادت علاقتنا إلى مجراها ومسارها الطبيعي.

  • * *
    هنا لابد لي من أن أتحدث عن تلك الأسلحة المحجوزة التي جلبناها من (اليمن الجنوبية) يوم كان يحكمها الحزب الاشتراكي على أسس ديمقراطية وكانت بيننا علاقات طيبة جداً، وهذه الأسلحة جلبها من سوريا الكادر السياسي والبيشمركه الرفيق مصطفى جاورش.

مؤامرة 29 أيلول 1971
عرفت هذه المؤامرة بـ(مؤامرة تفجير ونسف مجموعة من رجال الدين أنفسهم).
منذ بدايات الاتفاقية بدأت تظهر هنا وهناك في المناطق المختلفة لكردستان أحداث وتوترات واضطرابات. ولتمويه الحقائق وتغطية التجاوزات أرسلت الحكومة وفوداً غير رسمية للإفصاح عن رأي الحكومة وتبرئة نفسها مما يحدث، لتظهر أن لا ضلع ولا أي علم لها فيها.
في يوم 15 أيلول، بعد أن حمل رجلان من رجال الدين، و كان أحدهما عبد الجبار الأعظمي، مقترحاً من الحكومة إلى البارزاني تلقيا جوابه على المقترح، وعادوا إلى بغداد. تلاه ذلك وفد مكون من ثمانية إلى تسعة أشخاص عادوا إلى منطقه (حاجي عمران)، وحسب ما قيل في وقته إن مصطفى البارزاني قد وصل إلى مضيف (حاجي عمران) لملاقاتهم واستقبالهم.
بدأ عبد الجبار الأعظمي يسهب في شرح آراء وتوصيات الحكومة لمعالجة المشكلات القائمة بين الطرفين، ما إن فتح البارزاني فمه حتى سمع صوت تفجير، في أثناء ذلك كان قهوجي المضيف ويدعي شريف، داخل الغرفة فاردي قتيلاً هناك وصار درعاً للرئيس مصطفى البارزاني.
وفي النتيجة اتضح أن أحد الملالي ويدعى إبراهيم الخزاعي قد أصيب وقُتِل فوراً بأثر التفجير.
وظهر في وأثناء التحقيقات أيضا أن إبراهيم الخزاعي نفسه لم يعرف أن جهاز المسجل الذي ربط به كان ملغوما أساساً.
ذهبت إلى (حاجي عمران) لاستطلاع وتجلي الوضع. في إحدى الجلسات نظر إلي البارزاني والبسمة تعلو شفتيه قلت ربما يتذكر قولي (إن البعث غدار ويسعى لاغتيال حضرتكم). في أثناء الحادث ضربـت شظيـة جبينه وكـان أثـر الجـرح مغطـى بضمـادة مـن الجانبيـن.
يوما بعد يوم تجلى أن البعث لا ينوي منح الشعب الكردي حقوقه، وأنه لجأ إلى الاتفاقية لتلافي ضعفه، وأرغمه عليها عجزه، وعندما يستعيد قواه سيقوم بخرق بنودها، ولا يفوتني إعادة القول إن بيان 11 آذار كان من جانب آخر نصراً كبيراً للكرد، حيث غدا اعتراف ذلك العدو العنيد بحقوق الكرد في إطار الحكم الذاتي مرحلة جديدة في نضال الشعب الكردي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة