(هيا إلى التنوير، د. رسول محمد رسول)

أجراه: سلام جليل

رسول محمد رسول باحث وناقد وروائي وأكاديمي متخصِّص في الفلسفة الألمانية، ولد في مدينة الكوفة بالعراق سنة 1959، انتقل للعيش في العاصمة بغداد منذ عام 1964، وفيها بدأ حياته الدراسية طالباً في مدارسها، ومن ثم بدأ نشاطه الثقافي، تخرج من (كلية الآداب – جامعة بغداد) عام 1987، ليدخل إلى مجال الدراسات العُليا عام 1992، ويحصل على شهادة الماجستير في الفلسفة الألمانية الحديثة بتخصص نظرية المعرفة 1994، ومن ثم على شهادة الدكتوراه في تخصص الميتافيزيقا من (كلية الآداب – جامعة بغداد) في سنة 1997، عمل أستاذاً في عدد من الجامعات العربية ابتداء من سنة 1997/ 1998، في الإمارات- أبو ظبي و ليبيا وباحثاً في عدد من مراكز البحث العلمي العربية، عضو (الاتحاد العام للأدباء والكتّاب العراقي)، عضو (جمعية العراق الفلسفية)، لديه في ميدان التأليف أكثر من 34 مؤلفاً، من مؤلفاته في الفلسفة : نشوة الما وراء.. الميتافيزيقا في ذائقة الفيلسوف الإنجليزي، تنويريات للنشر، بغداد، 2019 وهيا إلى التنوير عن الدار ذاتها.
ومن مؤلفاته في موضوعة الغرب والإسلام: الغرب والإسلام: قراءات في رؤى ما بعد الاستشراق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2001.
أما في نقد السرد فمن إصداراته: السَّرد المفتون بذاته.. من الكينونة المحضة إلى الوجود المقروء، دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، 2015، وفي الرواية له إصداران منهما: يحدث في بغداد، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة، ط 1 + ط 2، 2014.
سنستجلي تصوراته في هذا الحوار وكيف يرى العالم في خضم تحولاته:

كيف بدأ عصف الأسئلة عندك؟

  • الأسئلة، ومن ثمَّ السؤال، هو نبتة مركوزة لدى الإنسان؛ بل إن هذا المخلوق الذكي (الإنسان) هو موجود تساؤلي بطبعه، وما يحتاجه هذ الإنسان فقط هو الانتباه إلى هذه المزية التي له حتى لا يكون أعمى عنها. وبما أنني ولدت في الكوفة سنة 1959، وكنت يومها يافعاً ومن مرتادي جامع الكوفة أو مسجد الكوفة، وكنت أنظر إلى طلبة العلوم الدينية عندما يجتمعون في حضرة أساتذتهم – معلمو الفقه أو الفقهاء – في باحات المسجد، ويسألون عن مشكلات ومغاليق ما لم يتعرفون إليه، وكنت يومها لا أستطيع فعل شيء سوى الأصغاء إلى مشهدية تلك الحالة بين السائل والمجيب، وفي يومها أيضاً لم أكن أفهم لا السؤال ولا الجواب، لكنها (المشهدية) كانت واضحة أمامي؛ مشهدية علم ومعرفة فيها يجتهد السائل والمجيب، ومنها اكتسبت بدايات عصف الأسئلة، وتطوّرت عندي شيئاً فشيئاً حتى قوي عودها لديّ في المرحلة الجامعية، تلك المرحلة التي كنتُ أشعر بالسعادة فيها وسط جو ثقافي معرفي في حضرة أساتذة أجلاء سأبقى مديناً لهم في حياتي.

أضئ لنا أكثر بدايتك

  • كانت بدايتي مع أبي، ثم مع مدينتي الكوفة، وبالتالي مع مدرستي، أما الفاعل الأكبر فهو جهدي الذاتي والشخصي؛ فلقد لدت مفطوراً على حب العلم والعلماء والفقهاء، ثم الفنانين والأدباء والفلاسفة، عشتُ مع هؤلاء طيلة أربعة عقود ونصف من عمري ولم أزل إن لم يكن أكثر قليلاً ولا ندم فالعطاء مسؤولية إنسانية وتاريخية فما خُلقنا لنكون معطلين ساكنين إنما مثابرين مُنتجين في دروب العطاء.

تخصصك لا سيما وأنت لليوم أصدرت أكثر من 34 مؤلفاً؟

  • تخصّصي في الفلسفة هو رئتي التي أتنفس بها الهواء لكي استمر في الحياة. كان تخصصي مجدياً عندما اخترت الفلسفة الألمانية الحديثة، وأكثر من ذلك عندما تخصّصت في التيار العقلي النقدي كما يمثله الفيلسوف الألماني إمانويل كانط في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، ولا أخفيك أنني وجدت نفسي في هذا التيار التنويري، وصمدت في دروبه حتى الآن، ونشرت الكثير من المقالات الصحافية البحوث والدراسات في تخصّصي؛ بل ونشرت كتباً عديدة في الفلسفة الألمانية (مثل: التفلسف النقدي، ونقد العقل الميتافيزيقي، والعلامة .. الجسد.. الاختلاف.. تأمُّلات في فلسفة مارتن هيدغر، وفلسفة العلامة، كانط في ذاته.. ودروب الفيلسوف في تعمير مفاهيمه، وفتنة الإسلاف.. هيدغر قارئا كانط، ومارتن هيدغر عربياً) وغيرها من العناوين الفلسفية.

كيف توفق بين كونك روائياً وفيلسوفاً؟

  • ما يجمعني أن أكون فيلسوفاً أو روائياً هو المشترك الإنساني بينهما؛ فالإنسان هو موضوع الفلسفة مثلما هو موضوع الأدب الروائي، نعم قد يكون المنطق والجمال والحقيقة والمعرفة والميتافيزيقا هي موضوعات الفلسفة لكن كلّها تجتمع عند الإنسان، وسواء كانت الرواية واقعية أو واقعية سحرية أو رومانسية أو عجائبية فلا شك كل هذه التصنيفات تجتمع عند الإنسان. ثم أن صنعة الرواية وصنعة الفلسفة تجتمع عند الفلاسفة الأدباء؛ كان الفيلسوف جان بول سارتر فيلسوفاً وجودياً لكنّه كتب الرواية، وكان أندريه جيد فيلسوفاً لكننا نحسبه روائياً وغيرهما كان جمعَ بين الفن الروائي وعلوم أخرى. وتجدر الإشارة إلى أنني كتبت ثلاث روايات في حياتي هي: (بنات الزعفران) 2011 وهي غير منشورة، ورواية (يحدث في بغداد) 2014، وأخيراً رواية (أنثى غجرية) 2018، وكلها لا تخلو من معطيات فلسفية.

في تجوالك بين أكثر من جامعة عربية تدريسياً من ليبيا إلى الإمارات، صف لنا مدى تعاطي الشباب العربي مع الفكر التنويري؟

  • البلدان العربية ما زالت تعيش في مرحلة التحديث (Modernization)؛ بل حتى دون التحديث في أغلبها، وعداها تقدّمت شيئاً ورجعت أشياء، وعندما انتقلت من التحديث إلى (الحداثة) صارت تواجه مشكلات كبيرة لأن من شروط الحداثة استعمال العقل والتقدم والإنسان كمفاهيم أساسية في التنمية ونمط الكينونة والعيش، وإذا كنّا أمة العقل كما يريدنا ديننا الإسلامي في ذلك فنحن أبعد الناس عن توظيف العقل في التنمية الشاملة؛ بل حتى في سلوكنا اليومي، ولا أغالي في القول إننا أمة تعادي العقل، لا سيما في سلوكنا السياسي وأقصد سلوك الدولة العربية، وكان عنوان كتابي الأول الذي صدر في سنة 1993 هو (العقلنة.. السبيل المرجأ) بعد الحماقة التي ارتكبها صدام حسين في غزو الكويت. التنوير في العالم العربي إما غائب وإما حاضر أعرج أو منقوص.
    لقد عالجت ذلك في كتابيّ (هيا إلى التنوير) الذي صدر العام 2019 بعد صدور كتابي (هيا إلى الإنسان) العام 2018، كلاهما يدخل في مشروع واحد. إن قول التنوير يمثل تحدياً في مجتمعنا العراقي المعاصر، لا سيما بعد فشل الدولة القومية في العراق، وفشل الدولة الوطنية في العراق، وفشل الدولة الإسلامية المتطرِّفة (القاعدة + داعش) في العراق؛ بل وفشل الدولة الإسلامية الحاكمة في العراق الراهن وهي دولة لصوصية هدفها قتل الإنسان لا بنائه بكل معنى الكلمة، فكل الساسة فيها كرّس الفشل والخراب والخسران والتخلُّف والتراجع وموت الإنسان وضياع الأمل بالعيش الأمن.

كيف تنظر للأصول المفترضة للتنوير عند العرب؟

  • تبقى الأصول هي هي؛ الإنسان، والعقل، والتقدم، لكن العرب تلاعبوا بها بسبب الضغوط الاستعمالية وجحيم الفكر النيوليبرالي القاتل للشعوب، وما يجري في العراق كرّسه ساسة عراقيون هم أقرب إلى الصهيونية وبنات النيوليبرالية من غيرها.
    الفلاسفة العرب في عصرنا هم أنفسهم أحدثوا أزمة التنوير في مجتمعاتنا كون هذه المجتمعات لا تتعاطى مع القفزات الكبيرة و التغيرات الجذرية.
    الجمود سمة للعقل العربي، والفلاسفة عشّاق العقل والتقدم ولا شأن لهم بتكريس الخراب، أقول لك صراحة: إن السياسة الاستعمارية هي المسؤولة عن تدمير التفكير التنويري في المجتمع العربي وكذلك أذيال الاستعمار من الحركات السفلية والحركات التدميرية سواء كانت إسلامية أم غيرها.
    ليس هناك تنوير؛ بل هناك تنويرات منها اجتماعي و سياسي… ألخ.
    بالفعل، توجد صور تنويرية ولكن مصيرها الخراب والهزيمة تحت رحمة الساطور الاستعماري وسواطير الفاسدين العرب أذيال الصهيونية التي تحكمنا اليوم في عالمنا العربي؛ بل العراقي، وكم نحتاج إلى فهرسة أسماء الصهاينة في العراق المعاصر من الذين حكمونا منذ 2003 وحتى الآن.

هل معنى ذلك أن العقل لا يستطيع التحرك في كل المساحات الممكنة أو لا يستطيع تحمل الأعباء الناجمة عن محاولة التغيير الكلي؟

  • أنا من مدرسة العقلانية النقدية التنويرية في العراق، ومن المؤمنين بالعقل إذا ما تعاملنا مع العقل بحرية وجرأة، والعقل لديه قدرات هائلة حتى إن الإسلام حثنا على تأملها والعمل بها، والخلفاء الراشدون بعد النبي (ص) حثونا عليها والعمل بها، لذلك لا بد أن نؤمن بالعقل لا أن نغيبه ونركنه جانباً ونطلب من أنفسنا التقدم والرفاه.
    العرب أمة خيال وذلك بائن من تراثها الذي تغلب عليه الجماليات كحاجة اجتماعية تكاد تكون يومية وفي شتى المواضيع.
    لا أتفق معك كلياً، وأقول العرب أمة عقل وخيال.
    كيف يمكن للعقل أن ينشط في ظل ظروف كهذه؟
    عندما نفكّر بالإنسان بوصفه إنساناً نستطيع أن نقترب من العقل أكثر أما إذا احتقرنا الإنسان فينا فلن يجدي تعاملنا مع العقل نفعاً.
    يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «في انهيار الدول تزداد غربة العاقل».
    وقبله قال أبو حيان التوحيدي: «الغريب من كان غريباً في وطنه». ابن خلدون عالم اجتماع محترف وواقعي عاش أيام العرب في محنهم وتعاسة أمرهم، وبالفعل عندما تنهار الأمو وكذلك الدولة وأيضاً ينهار المجتمع سينهار توازن الإنسان بكل ما يحمل من قيم، وهذا ما جرى في وطننا العراقي منذ 2003 وحتى الآن، فالإنسان العراقي أصبح غريباً في وطنه، باكياً، مهزوماً، ينشرح إلى لحد الموت بيسر وسهولة. وهذا ما يعيشه الإنسان العراقي في كل لحظة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة