رماد الاسئلة .. وترميز المرايا في خلق الصورة الشعرية

حامد عبد الحسين حميدي

(حبيب السامر) (1) في (رماد الأسئلة) (2) يمتد بإنزياحات دلالية متخمة، لما تشكله هذه العنونة من نبرة حزن وتأمل واستغراق في ماهية الأشياء التي أحيانا تحليانا على الوقوف على متبقياتها الإشارية ، فهو يقف على تخوم تلك الأسئلة التي لم تترك له شيئاً سوى رمادٍ تغلغل بين ثنايا أوجاعه وملامح الخيبات التي جفّفت ذلك الأفق المعبّأة بجدلية البقاء والزوال، إنه يعرف كيف يتعامل مع انتقاء المفردة والتركيب، كونه شاعراً جمع بين نزعتي الحزن والرومانسية، بل أجده مستغرقاً بخلق الصور الشعرية بتداعيات (المرايا) التي رسمت بدقّة متناهية وسط انثيالات توصيلية خطابية مباشرة، لتشكل ( المرآة ) لدى الشاعر حبيب السامر ، بصورها المختلفة العمق البؤري الموحّد للذات الشاعرة وهي تسبر أغوارها، لتفجر مكامن الطاقات الترميزية.
في المرآة
أنا شكل آخر
لا يشبهني
تطيل المرآة التحديق الي
لا اشبهها
انها مصقولة تماما
لكنها بلا أذرع (3)
(المرآة) رمز لقراءة الافكار والتصورات الباطنية والتساؤلات التي تراودنا من خلال النظر اليها، إنها الكشف عن (المرئي واللامرئي)، وهي التجسيد الرمزي للروح، إنها نافذة لسبر اغوار الباطن، وتحديث الابعاد ببعدها البؤري، لذا نجد (السامر) يحاول من خلالها عقد البعد البؤري لصورته الباطنية وما تعكسه من مشاكله أخرى، فما يراه يختلف عن الواقع الذي يعيشه واقعياً.
أخفى الحارس نعاسه
ألقى بالظلمة
خارج سياج مراياه
بأصابع الصمت
يبارز ظل الطواحين(4)
هكذا / تجسّدت الانكسارات الباطنية في دواخلنا، ونحن ننظر في (مرايا) تحولت الى أداة رفض للظلمة (خارج سياج)، إنه الغزو الذي لم يستطع اجتياح النفس وزوايا تجاعيد الانحناءات التي باتت تضفي مكابدات الافتراس، إنه توجيه القارئ / المتلقي الى البحث في (مرايا) السّامر كونها ذات توصيفات دلالية مبطنة، فالصورة الشعرية لدى (السامر) أخذت حيزاً تركيبياً مرئية، حتى وان كانت باطنية نفسية، فإخفاء النعاس كان محفزاً على التهيؤ وتلقي ما يدور حوله من ظلمة أخرجها من تكوّراته الباطنة، الـ (سياج) دلالة الانفصال والحدّية المكانية أو العزلة.
تأمل حلمه
حاول أن يقفز
في المرايا
تعثر بأسماله
وبقايا نباح كلب
تعالى صوته:

  • اخلدوا للنوم المضجر (5)

بينما هنا نجد أن الغائب (الضمير المستتر في -تأمل -) يشكل بتأمله الذي لم يرَ فيه من جدوى، كمحاولة منه للهروب ليس من الواقع، فحسب بل من الحلم الذي كان من مخلفات واقع مرهق ثقيل / فـ (المرآة) أعطتنا نافذة للخروج من مأزق أطبق عليه، حيث التعثر والخطاب الذي جاء ضمن معطيات التداعي (اخلدوا للنوم المضجر)، ان الاشتغالات تعطي مضموناً كاشفاً عما يدور في ذهنية الشاعر. لذا / مال الى استخدام الفعل (يقفز) لما يتضمنه من انتقالية سريعة من والى، كونه يمثل حالة التداخل السريع فيما بين التدوير الذي بناه لنفسه.

لا تكتب حرفاً، في المرآة
لأنه حتماً …
سيبحث عن حرف
أو حروف
ليكوّن كلمة دالة
أو يظل وحيداً … مثلي( 6)

هكذا / تجلت الصورة المتدفقة لدى الشاعر (حبيب السامر)، وهو يقتنص تلك الدوال، حيث أن النهي (لا تكتب) بلا الناهية أعطت للتركيب الشعري، تنبيهاً أعمق وأدلّ على ما يأتي، فالحرف لم يشكل لديه سوى وسيلة للبحث عن الكلمة الدالة النافرة، فبقايا هذا لم يأت ِ من مجرد فراغ، وإنما جاء من أن (المرآة) بما تحمله من ابعاد تصويرية، دلّت على ان الشاعر يمارسها بوعي، يتعامل معها ضمن المناخات المجسّمة، فما بين الشاعر والحرف، منحى وملتقى واحد، ألا وهو العزلة والبقاء في خانة الوحدة الخانقة.

المآذن
مرايا التنبيه
لصوتك الخافت (7)

ثم تتحوّل الـ (مرايا) ضمن التجسيمات الدلالية الى بُعْد آخر، حيث منحها الشاعر امتداداً خطابياً، اذ / هي مآذن وما بينهما روابط مشتركة، فالمآذن وحدة معمارية بارزة، الغاية منها الاعلان والإعلام لأمر محدّد، وهي تقع ضمن تآصرية التنبيه، التي اكتسبت مسافات تناغمية، مع ما يكون، أضف الى أن (لصوتك الخافت) أخذ معنى تناسقياً في الخفوت والهدوء والولوج في الأعماق.

مرآة
ماذا خلفت
مراياك
لطفولتي (8)

هنا يقف الشاعر ضمن استفهامية، تحاول من الآخر المخاطب معرفة شيء مجهول في الذهن، لذا / كان للأداة (ماذا) بثّها النصي الدلالى في تعميق البحث .. عمّا تخبّأه (مرآة / مراياك)، هذا الشيء المادي الذي يخفي وراءه تأويلات عدّة .. لرؤية ماضوية ضاغطة ضمن ما يراه الشاعر في زمنية مضت وتلاشت، حيث يطلب منها الوضوح وكأنها صور استرجاعية (لطفولتي) التي يحاول فكّ شفراتها من خلال اداته الفاعلة في تأطير الزمانية والمكانية التي انتهت.

كما الخريف ينسل
ينحسر
في قمرة الانطفاء
بمرايا طفولة
قد تجيء … (9)

(كما الخريف ينسل) تركيب لا يمكن لنا ان نبتعد عنه دون الدخول في فهم ادراكياته الباطنية، كونه يمثل الانفصالية المباشرة والسقوط لأنه يتخلى عما لديه من ارواق مما يؤدي الى انحساره، وكأنه في (الانتفاء)، هذا المقطع شكّل مدخلاً للآتي (بمرايا طفولتي) حيث يعلن فيها عن تباشير الروح المتسامية التي تولد من باطن الزوال، هذه الصور التتابعية ذات نمطية ساكنة، ثمّ نلاحظ (الخريف / ينحسر / الانطفاء / قد تجيء) فيها اشتغالات متناقضة لما نأمل به، لأنها تدل على الخسارة والضياع والانكسار.

وأنا
افيق
افيق
افيق
من مرايا الحرف
في غياهب الحبر
هو انت
لا أحد يستدل بك
غيري
اقترب … (10)

هنا المرآة، كانت انعكاساً مباشراً لمداخلات (الانا) ضمن تناسقية فعلية للفعل (أفيق) الذي ورد ثلاث مرات وهو يحمل حالة خاصة، كونه انتفاضة ويقظة داخلية من سبات، لكنها مصحوبة بالخمول النفسي، والتعب الذي نشعر به ونحن ندخل في غياهب السواد الذي تمثله (مفردة (الحبر)، التي جاءت بتأزم الآخر المخاطب (هو أنت) والبحث عن الاستدلال التامّ، لذا كانت نقطة (الاقتراب) مسافة واحدة في (مرايا الحرف).

(1) حبيب السامر: شاعر وكاتب تولد البصرة، بكالويوس لغة انكليزية، عضو اتحاد الادباء والكتاب في العراق عضو نقابة الصحفيين العراقيين، صدر له: مرايا الحب، مرايا النار ٢٠٠١ ٢/ حضور متأخر جدا ٢٠٠٥ / رماد الاسئلة ط١ ٢٠٠٧، ط٢ ٢٠١٣ لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة العربية / اصابع المطر ٢٠١٢ / بابيون ٢٠١٥ / شهرزاد تخرج من عزلتها ٢٠١٧.
(2) رماد الاسئلة : حبيب السامر ، دار الشؤون الثقافية – بغداد ، الطبعة الاولى سنة 2013 .
(3) ص 5 . مطر يبلل قاماتنا .
(4) ص 13 . حارس آخر الليل .
(5) ص 20 – 21 . المجنون ثانية .
(6) ص 43. بلورات العمر .
(7) ص 51 . بالندى تسترين عريك ايتها الشمس .
(8) ص 73 . قصائد ليست للحفظ .
(9) ص 76 . انه البحر .. ينحسر .
(10) ص 93 . ارجوحة القمر .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة