فاضل العزاوي والبحث عن المنزلة النبوئية للشعر والشاعر

شكيب كاظم

لقد أعاد كتاب ( شعراء البيان الشعري) للشاعر والناقد والأستاذ الجامعي، الدكتور خالد علي مصطفى ( توفي٢٠١٩)، أعاد إلى ذاكرتي ( البيان الشعري) الذي نشرته مجلة ( الشعر ٦٩) بعددها الأول الذي صدر عن المؤسسة العامة للطباعة والنشر ببغداد سنة ١٩٦٩،الذي أثار صدوره ضجة واسعة في الأوساط الثقافية في العراق، يوم كانت الناس تقرأ، والبيان هذا وقع عليه أربعة من شعراء عقد الستين من القرن العشرين هم: خالد علي مصطفى، وسامي مهدي، وفاضل العزاوي، وفوزي كريم، والبيان الشعري هذا بتوجهاته وأسلوب كتابته، يعيد لذاكرة القراء الجادين (البيان السريالي)الذي أصدره أندريه بريتون ( ت.خريف ١٩٦٦) في باريس سنة ١٩٢٤، وفرنسة مولعة بإطلاق الصيحات والتشوفات الثقافية، فقد سبقتها الدادائية التي أطلقها ترستان تزارا.
ففي البيان الشعري هذا أنفاس من فاضل العزاوي،لا بل أنفاسه وتوجهاته في الكتابة والبحث عن المنزلة النبوئية للشعر والشاعر، ونزوعه نحو تغيير الحياة والعالم، ولان الشاعر يرنو إلى أن يصبح صوت كل الأجيال، ولان الشاعر مقاتل يحدق بعيني نسر إلى المستقبل الذي لا يراه الآخرون، ويكتب لهم من الجحيم حيث يخوض حرب الحرية حتى النهاية، فالبيان يعبر عن نقاء التوجهات الفكرية والحياتية، قبل أن تلوث السلطات القامعة، الحياة عامة في الوطن العربي، وتحول الفكر والمبدأ إلى جهاز بوليسي يئد كل التشوفات والتطلعات.
أزعم اني تابعت منجز الأديب العراقي المغترب في ألمانية، فاضل العزاوي منذ بداياته الأولى، لأني وجدت فيه شيئا مغايرا للادلجة والصوت الواحد القامع، وجدت في فاضل العزاوي تغريدا خارج السرب المؤدلج، وهروباً من القطيع الذي ينتظر التوجيه والأمر كي يكتب، كان باحثا عن الحرية، حرية الكتابة.وكيف يمكن لأديب أن يكتب، اذا كان هواء الوطن ملبدا بغيوم الإقصاء وأعاصير الخوف؟
وجدت في كتابه الأول الصادر سنة ١٩٦٩(مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) نصا مفتوحا يحاول أن يوجد شكله الخاص، وإنه مزج بين الرواية والقصة القصيرة والمقال، رواية خيال علمي.
إن بطل الرواية يحيل سكان مدينته إلى أنصاب جامدة، في الرواية هذي شيئ من الفانتازيا والغرائبية السحرية، قبل أن تسود على يد كتاب أميركة اللاتينية.
لقد توسل فاضل العزاوي بكل فنون الأدب كي يستطيع إطلاق سراح نصه الأدبي هذا ونشره.
حتى إذا نشر روايته القصيرة (القلعة الخامسة) والتي استطاع تهريبها إلى سورية، وتحديدا إلى القاص الكبير زكريا ثامر، فينشرها إتحاد الكتاب العرب بدمشق سنة ١٩٧٢، توثقت صلتي الثقافية والمعرفية به، وكتبت عنها حديثا نقديا.
تأتي المفارقة المؤسية المفجعة في هذه الرواية من حصول خطأ في اسم المعتقل بالقلعة الخامسة من سجن بغداد المركزي في باب المعظم، وهدم لاحقاً. ففي سجلات المعتقل هو ( محمود سعيد). لقد سقط اسمه(عزيز) ربما سهوا أو تسرعا، ودوّن اسم أبيه وجده فقط، فما أن يصيح عريف السجن مناديا باسمه:
–محمود سعيد.
حتى يجيب مرتبكا.
— إنه إسمي، اقصد إنه ليس إسمي.
ضحك مدير السجن وقال:
— ماذا تقول أيها الشاب؟ تعال إلى هنا
— إنه ليس إسمي، لقد حدث خطأ، إن إسمي هو (عزيز محمود سعيد).
قال المدير بعد أن سحب القائمة من يد العريف.
— لا يوجد سوى هذا الاسم ولا بد إنه اسمك، لا تؤاخذنا. إذا كان عندك أي اعتراض فتقدم به فيما بعد، اما الآن فعلينا التوقيع على مذكرة استلامكم.
ولنا أن نتصور المأساة الإنسانية التي سيعيشها هذا الإنسان، الذي بدأت حياته في المعتقل بهذا الخطأ الفادح؟ لذا كنا نطالع تهويمات وخلجات هذا الإنسان المهزوم نفسيا وروحيا.
— تساءلت مع نفسي: هل أنا مسؤول عن فساد العالم؟ إن الخطأ موجود منذ الأزل، ثمة خطأ أساسي في العالم لا أتحمل مسؤوليته (…) فلطالما فكرت في أن العالم قائم على خطأ خفي لا يمكن توضيحه أو تأكيده.
كانت هذه الأفكار السوداوية، نتاج مجتمع ضربته العسكرة والأحكام العرفية والمجالس العرفية، والمحكمة العسكرية العليا الخاصة وليس من أعضائها حقوقي قانوني بل عساكر، وما تسمى بمحاكم الثورة وأمن الدولة غير الخاضعة أحكامها للاستئناف والتمييز، فلا حرية لأعداء الشعب؟!
ويوم أصدر الشاعر والباحث سامي مهدي كتابه (الموجة الصاخبة.. شعر الستينات في العراق) الذي درس فيه جيل الستينات المشاكس الصاخب، الذي عانى الخيبات والنكوص والهزائم النفسية، وهو يرى ايلولة أحلامه إلى يباب، فضلا عن دراسته لما عرف بـ(جماعة كركوك) وفاضل العزاوي من مؤسسيها، الى جانب: سركون بولص، وأنور الغساني، وجليل القيسي، وزهدي الداودي، وصلاح فائق، ويوسف الحيدري، والاب يوسف سعيد، ومؤيد الراوي وغيرهم، فإن فاضلا العزاوي كتب مناقشا سامي مهدي كتابا سماه (الروح الحية. جيل الستينات في العراق) كما شارك في هذه النقاشات الثقافية، الشاعر والباحث العراقي المغترب في لندن فوزي كريم، وتناول جانبا منها في كتابه المهم (ثياب الإمبراطور… الشعر ومرايا الحداثة الخادعة).
ما زال فاضل العزاوي يواصل الكتابة، رائيا أن اللغات التي عرفها في سنوات الغربة الطويلة روافد تغتني بها لغته العربية، فكتب رواية (الأسلاف) فضلا عن رواية (آخر الملائكة) التي تتواشج مع سحرية ألف ليلة وليلة، والأساطير الدينية العربية والشرقية، فضلا عن ( الأوديسة) لهوميروس، وجحيم دانتي الليجيري، والشخصية المركزية فيها ( برهان عبدالله) الذي فيه شيئ من كاتبها فاضل العزاوي، لابل أشياء. وكتاب (الرائي في العتمة. هكذا تكلم عابر المتاهات عن زمانه) الذي نشرته دار الجمل في المانية، واحتوى على أكثر من ستين مقالة لم يشر العزاوي إلى مكان نشرها،ويبدو أنه نشرها على مدى سنوات طويلة،اذ فيها الكثير مما ذكره سابقا، شاء لها العزاوي أن لاتبقى ثاوية مهملة فأعاد نشرها،ولكي أكون شاهدا– هكذا يدوّن فاضل العزاوي– وضعت هذا الكتاب الذي أردته أن يكون دليلاً لي،وليس لأحد غيري، داخل المتاهة التي وجدت نفسي فيها فقطعتها حتى نهايتها المريرة.

حاشية

نص الحديث الذي قرأته في جلسة الاحتفاء بمنجز الشاعر والناثر المغترب فاضل العزاوي، التي أقامها بيت المدى للثقافة والفنون ضحى يوم الجمعة ١-٣-٢٠١٩وادارها الباحث رفعة عبد الرزاق محمد، وتحدث فيها تباعا: الدكتور مالك المطلبي، والناقد فاضل ثامر، وشكيب كاظم، والأستاذ صباح الكركوكي، والناقد ياسين النصير، والدكتور داود سلمان العنبكي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة