من حسنات الحالة الهلامية للمشهد العراقي الراهن، أنها تطيح سريعاً بالمفاهيم والاصطلاحات الدخيلة عليه، وتمنحها تسمياتها المحلية الأكثر انسجاماً مع المعطيات الواقعية. وهذا ما حصل مع أحد أهم وأشهر المفاهيم التي صاغها عقل انطونيو غرامشي (1891-1936) أي “الكتلة التاريخية” التي سرعان ما تحولت لدينا الى ما يمكن أن نطلق عليه بـ “الفقاعة التاريخية” بعد أن تم استعمالها وانتهاكها بكل خفة من قبل دغل البروليتاريا المهيمن على ما تبقى من أنقاض اليسار العراقي. يسار تحول الى ذيل يزداد غلاظة يوما بعد آخر، وهذا ما أدركه سلام عادل (آخر قائد يساري) قبل أيام من اعتقاله واغتياله العام 1963، عندما قال (لقد خسرنا المعركة العام 1959…) وكان يشير بذلك الى وباء النهج الذيلي واليميني الذي بسط نفوذه على سياسات ومواقف الحزب الشيوعي العراقي. وقد أكدت الأحداث لاحقاً، صحة ودقة هذا التشخيص، حيث لم يتمكن هذا الحزب والذي كان ذات يوم، من أكثر الأحزاب الشيوعية جماهيرية لا في المنطقة وحسب بل في العالم أجمع؛ من التخلص من وظيفته القاتلة؛ أي “الذيل” والتبعية للقوى الأخرى بما فيها القوى الأكثر عداء له ولمشاريعه النظرية والقيمية المفترضة.
لقد برهنت الأحداث صحة ما أشرنا اليه وما حذرنا منه، لا سيما ما يتعلق منها بالجهات التي امتشقت رداء “المدنية والإصلاح” والتي كشفت مرة أخرى عن ملامحها وإمكاناتها الفعلية، حيث لم تخرج عن نطاق الوظيفة المحدودة والمسبقة لها، بوصفها جزءا من ديكور اللعبة السياسية الراهنة. إن الأدوار الفعلية لهذه القوى التي تدعي المدنية والحداثة واليسار والإصلاح، لم يخرج عن مهمات ذر الرماد في العيون، وإعاقة أية محاولة جدية لسبر غور المأزق السياسي والحضاري الذي يتخبط فيه العراقيون منذ عقود. هذا المأزق والانحطاط المتواصل في القوى والإمكانات وضعف ديناميكية المجتمع (جماعات وأفراد) تقف خلفه حزمة من العوامل والأسباب، منها الدور التضليلي والتخريبي الذي يلعبه “دغل اليسار والتغيير والإصلاح”، وقد تجرعنا ثمار نشاطهم وسياساتهم وقراراتهم، في غير القليل من مفترقات الطرق الذي مر بها هذا الوطن القديم في تاريخه الحديث. وما المحطة الاخيرة (انتخابات العام 2018 التشريعية) وما تمخضت عنه من معطيات وآثار وفضائح، إلا دليل واضح على استمرار تلك الوظيفة التي أشرنا اليها. وهنا لابد من الإشارة الى أن كل ما حصل وما سيحصل لاحقاً، لن يحظى من قبلهم بأي موقف جدي ونقدي ومسؤول، لا شيء سوى بياناتهم وخطاباتهم المستعدة على الدوام لتبرير كل أنواع الجرائم والموبقات، لأنهم يعدون أنفسهم من سلالات لا يعرف الخطأ والزلل طريقاً الى مستنقعاتهم الراكدة، وهذا ما يمكن تلمسه في تقاليد التحجر والركود السائدة في أوساطهم، حيث يتعرض من يتجرأ على طرح ونشر أفكاره المختلفة والمغايرة عبر المنابر الصحفية ومواقع التواصل الاجتماعي؛ الى حملات للتشويه وشتى أنواع الاتهامات الجاهزة، وهذا ماحصل مع قياديين أعلنوا عن آراءهم بشكل علني وبعيداً عن الدهاليز الحزبية الضيقة، من دون أن يلتفتوا قليلاً الى ما كان عليه حال حزب غرامشي نفسه من تعددية ومواقف شتى داخل الهيئات القيادية لذلك الحزب العريق، لم يعرفوا عن غرامشي وحزبه سوى مصطلح “الكتلة التاريخية” والذي تحول بهمة منظروا “دغل اليسار” الى فقاعة تاريخية تترنح عند أبواب أولي الأمر الجدد.
جمال جصاني
فقاعة تاريخية
التعليقات مغلقة