الدلالة والمعنى من متن النص في.. «مضاجعة الموت»

يوسف عبود جويعد

التلقائية صفة ذهنية وسلوكية صحية محببة، إذا ما توفر لدى الفنان الممثل في إداءه للأدوار المسندة إليه فأنها تساهم في نجاحه للشخصية وتقمصها وإيصالها الى المتلقي، دون تكلف أو مبالغة، أو إرتباك، أو تصنع، وكذلك الأمر فيما يخص الشاعر، فأنه إذا إعتلى المنصة لإلقاء قصيدته بتلقائية، فأن اداءه سيكون أكثر تأثيراً، وهكذا الحال في الاعمال الابداعية الادبية، حيث نجد في رواية (مضاجعة الموت) للروائية السورية فاطمة خضور، هذه التلقائية التي تجتاح المبنى السردي وتكون فضاءاً لتكوينه وتشكيله، في شروعها لعملية فن صناعة روايتها، حيث الإيقاع المنساب دون تلكؤ أو إرباك، ووضوح معالم الجمال الفني في البنية النصية، من خلال إستحضارها لادوات السرد وزجها بشكل متناسق دون تخلف أي عنصر من عناصرها عن الآخر، وهذا السياق الفني الذي إتبعته سواءاً جاء بمعرفتها فيه، أو ناتج عن مدى إدراكها ووعيها لمفهوم السياق الفني للنص الروائي، وكما يعلم معظم الادباء والمثقفين والمتابعين لمسيرة الروائية، أنها حاضرة في المشهد الثقافي والادبي، لإدارتها لأكثر من موقع أدبي في بلدها سوريا وفي العراق، وفي البلدان العربية ولها حضور واضح، ومن أهم تلك الصفحات التواصلية، الورشة الثقافية التي هي عضو فاعل فيها تديرها وتقدم فيها حوارات ادبية لادباء يكتبون في كل الاجناس، الشعر، القصة ، الرواية، والتي جاء ذكرها ضمن هذا النص ومديرها ومؤسسها الروائي كاظم الشويلي لفضلها الكبير عليها ، ومن هنا فأن الروائية فاطمة خضور، اكتسبت خبرة ومعرفة من خلال هذا الحضور الفاعل الذي إنعكس على كتاباتها، وأخص بالذكر منجزها الادبي الابداعي البكر هذا، كونه حمل بين ثناياه نضوج فكري واضح، والمام تام بعملية إعداد النص السردي الروائي، وهوينقسم الى قسمين في إختيارها للانماط الادبية، الاول هو أدب السيرة، حيث نجد شخصيتها من ضمن شخوص هذا النص، محور رئيسي فيه، وهي ذاتها تقوم بمهمة إدارة الاحداث في المسيرة السردية، وكذلك نجد النمط الآخر وهو الواقعية النقدية لإستعراضها واقع الحياة المرتبكة المغلفة بالفوضى والقلق والخوف والحرمان، للنسوة اللاتي زجن في معترك هذا النص، شخصيات مكملة للاحداث، كما أنها قدمت ثيمة مهمة تعكس واقع حال حياة المرأة بغياب الزوج، الذي يشكل ركن مهم من اركان الاسرة، وحمل مسؤولية إعالة الاسرة وتربيتها وتوفير مستلزمات ديمومتها من قبل لمرأة وحدها، وكذلك خطاب إنساني آخر مهم وهو حق الزوجة الشرعي بالاختلاء مع زوجها، والذي ضاع وسط الحروب ولخراب، وفاطمة الشخصية الرئيسية في هذا النص، وقد رسمت ملامحها لتكون هي ذاتها ممرضة تعمل في أحد دوائر الصحة، وبحكم عملها، فأنها تداوي النسوة وتزرقهن الابر في بيوتهن، وهكذا تستغل الروائية هذه المهنة الانسانية النبيلة، لتقدم لنا حياتها وحياة بقية الشخوص التي دخلت ضمن هذا المبنى السردي..
كما سوف نكتشف ومن خلال الإهداء اللغة السردية التي إختارتها الروائية سياقاً فنياً لسرد الاحداث:
الاهداء
إلى الملكة التي وهبت وليدتها عرش الحياة..
إلى الروح التي تسامت في فضاء الملكوت الأعلى
فأودعت فيّ الحنان والتضحية والبراءة..
يحملني إليك الشوق وأنا في عالم هجرَ الحنان والبراءة..
إليك ياهويتي الجميلة التي طرزتها حروف اسمك الغافي على ضفاف ذاكرتي ..
يامن وهبتني اسمك الشّفاف …
يتلألأ في كل دمعة تشتاق لقاءك..
إنها فاطمة تشتاق همساً إلى فاطمة…
تعيش على أمل لقائكِ في ذلك العالم الآخر…
إلى ..
روح..
أمّي …. الطاهرة….
وهكذا نضع خطوتنا الاولى في خضم الاحداث، من خلال تلك الممرضة، التي تشبه الى حد بعيد العدسة اللاقطة التي تكشف لنا حركة السرد من خلال رصدها ومتابعتها، فتقدم لنا الشخصية الثانية في هذا النص والتي شكلت المحور الثاني فيه (أميرة):
( أدرت رأسي للجهة اليمنى حيث كانت واقفة، امرأة جميلة ذات قوام رشيق متوسطة الطول، لها وجه مستدير، وبشرة رائقة مشربة بالحمرة، حاجباها كالسّيف أسفل جبهة عالية عريضة، أما عيناها فقد أخذتا من الطبيعة لونهما الذي لا يضاهيه لون، وبالرغم من جمالها اللافت، فقد كان يستوطن فيهما ثمة حزن عميق..) ص 14 .
حدث ذلك أثناء زيارة الممرضة فاطمة للخالة أم محمد تلك المرأة العجوز التي ساءت حالتها الصحية وهي تتابعها بإستمرار، وهذا المدخل منحنا خطوة ثانية للدخول الى أعماق الاحداث في هذا النص، حيث نكتشف حياة فاطمة بين اطفالها وزوجها، وحياة أميرة بين اطفالها وزوجها الدائم الغياب، مما يشكل حالة فراغ كبير في حياتها، وتحملها مسؤولية رعاية الاطفال، وتنشأ علاقة صداقة حميمة بينهما وتواظب فاطمة على زيارة أميرة من أجل معرفة تفاصيل اخرى عن حياتها، ويبرز خط آخر يرافق الاحداث، وهو الوضع المتردي في البلد، والحرب الداخلية التي نشبت فيه، وتدخل الامريكان كقوة مشرفة على البلد، وهو يشكل الحالة المضافة لتأزم الشخصيات وضيق الحياة، وصعوبة مواجهتها، وسط حالات خانقة اخرى اهمها غياب الزوج، الذي يشكل وجوده في نظر المرأة الامان والقوة:
( هذه الحرب الرعناء لا ترحم، يتساوى في ذلك الكبير والصغير، الغني والفقير، والمعارض والموالي…
الحرب مأساة طاحنة للشعوب أياً كانت الأسباب، وأياً كانت الأطراف المتنازعة، ولعلّ ما يزيدني حزنا، أن سوريا – وطني- التي كانت دائماً فاتحةٌ ذراعيها وأبوابها وبيوتها لكل مواطن عربي منكوب لم يلاقي منكوبوها المعاملة بالمثل في عدة من دول بني جلدتهم) ص 28
ونكون مع أدق تفاصيل حياة النسوة، ومعاناتهن ومسؤوليتهم في تربية الاطفال وادارة الاسرة، في احداث تمثلت بتلقائية سردية تسير مع المبنى السردي، وتقدم لنا الروائية فاطمة خضور شهادة صادقة لحبها لبلدها الثاني (العراق) من خلال دخوله في ثنايا هذا النص، ومتابعة الممرضة فاطمة لواقع الحياة فيه:
( – جاءني اتصال في وقت متأخر البارحة أزعجني كثيراً لقد تعرض صديقي «فراس الخفاجي» وعائلته إلى سطو مسلّح وإنهمر عليهم أزيز الرصاص من كل حدّب وصّوب.

  • أين حصل هذا؟
  • في العراق.
  • آه حسبته هنا. ومن يكون فراس؟
  • أنه أحد أدمن «الورشة الثقافية» هو شخص طيب وخلوق
  • كان الله في عون الاخوة العراقيين، لقد عانوا ما عانوه، وطال أمد الحرب في بلادهم.) ص 44
    وتتسع دائرة الاحداث وتكبر، وتدور الحكايات بين تلك النسوة، فتلك توفى زوجها في المعارك، واخرى مجرد أسم، وهو غائب دائماً لكنه يقوم بدور البطولة كزوج يدير اسرة، وبين الحياة في البلد التي تزداد تأزم حتى تصل المعارك الى عقر ديارهم، فتضطر الممرضة فاطمة أن تأخذ أطفالها مع زوجها ليسافروا الى مصر حتى تستقر الامور، وتفترق عن صديقتها اميرة لبعض الوقت، وحالما يستقر الوضع تعود لاحضان الوطن لتزور امها وابيها، وتحتضن اميرة بشوق عارم.
    وقد اتقنت إختيار بنية العنونة، فهذا العنوان له أكثر من دلالة، واكثر من معنى، وهو مرتبط بمتن النص، فالمرأة التي تنام على وسادة خالية بغياب زوجها تضاجع الموت، ومن تنام تحت وابل القصف والرصاص والنيران المشتعلة بخوف وقلق تضاجع الموت، ومن تتحمل مسؤولية كبيرة اكثر من طاقتها تضاجع الموت، ومن تقع تحت براثن الشيطان دون ارادتها تضاجع الموت.
    وهكذا وبعد تشجيع مستمر من قبل فاطمة لصديقتها اميرة واهداءها الروايات المستمرة طيلة تلك الفترة، ومعرفتها لاصول كتابة الرواية، تكتب روايتها (مضاجعة الموت) وتقام لها جلسة احتفائية بهذه المناسبة، تحضرها صديقتها:
    ( قبلتها على جبينها واعتذرت منها، لأن الشك دخل قلبي يوماً ما، وتركتها مع الأصدقاء والمهنئين، وذهبت إلى زوجي الحبيب، فأحاط بذراعه اليمنى كتفي، اشرتُ إليه للصفحة الأخيرة، ونظرت إلى اميرة..
    «إستيقظوا أيها الأموات، فالأحياء ميّتون) ص 178
    رواية (مضاجعة الموت) للروائية السورية فاطمة خضور، كتبت بتلقائية عالية ووضوح تام، وإنسيابية وإيقاع متزن، وبلغة سردية تنسجم ومتن النص، تنبأ بظهور ساردة جديدة تخط طريقها نحو عالم السرد.

من إصدارات أمل الجديدة – سورية – دمشق لعام 2018

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة