التباس العنوان .. تأويلات المتن

جاسم العايف

بعد (لا جدوى من البكاء أبداً) المجموعة الشعرية الاولى -الدار البصرية للطباعة والتوزيع -2010، والثانية «الريح. وما تشتهي»-دارالينابيع-دمشق- 2013,صدرت « المروءات..غادرت محطات بلادي»** المجموعة الثالثة للشاعر (جبّار الوائلي ) , وعد عنوانها ملتبسا ومستفزاً و صادماً , وأثار بعض التحفظات في الوسط الثقافي البَصَري، ومن جهة اخرى تم تبرير عنوانها، في حديث عام جرى في ندوة اقامها اتحاد ادباء وكتاب البصرة، لبعض الشعراء وبينهم (الوائلي) الذي ذكر- بالمعنى -: ( بأن عنوان مجموعته الشعرية الأخيرة، يعتبرهُ بمثابة صرخة تحمل عمق دلالاتها لكل مفردات حياتنا الراهنة , وهو تجسيد للواقع المرير والمتميز بتكالب الصراعات على العراقيين , و هيمنة الأفكار والممارسات الإقصائية , والسعي المتواتر , الآن , في تأبيد وقنونة تهميش الآخر وإقصاءه، وتقويض دوره المجتمعي, فالحاضر معطل والمستقبل تحاصرنا الشكوك حتى بآماله) . وفيما إذا ذهبنا إلى الغلاف الذي صممته الفنانة « أمينة صلاح الدين» نجد عيناً بشرية أنثوية مذهولة، متسعة، منكسرة، ويطغى عليها لون حزين يحفّ به السواد مع احمرار في بؤرة العين المذهولة، تبدو كما لو أنها تودّع راحلاً عزيزاً بدمعة تسقط في فراغ موحش، في تمثيل مرئي بسيط للقنوط والإحساس بالفقدان الذي يكتمل بمفردة مرئيّة أخرى تعزز الشعور به بمشهد طائر أقرب إلى أن يكون غراباً تسمّر على غصن شجرة احترقت تماماً. الفنانة «أمينة صلاح الدين»، كما يبدو، قامت بترجمة العنوان بَصَريّاً وكثفت دلالته بمفردات جاهزة وبسيطة، وكانت بمثابة (مترجمة) للعنوان فقط أقرب منها إلى فنانة لها رؤى وتجارب متعددة، في تصميم اغلفة الكتب بالذات، وكان من الممكن، لها، بشيء من الجهد البسيط، الاطلاع على متن الكتاب كي تتمكن من تصميم غلافه، لا أن تكتفيَ بعنوانه فقط؟!. إذن العنوان لدى الوائلي بمثابة (المفتاح) للولوج إلى نصوصه بعيداً عن لغة الرتوش ورتابة المفردات وعبره تنطلق صرخة الألم. عنونة النص ومرموزاته تشكلان منفذاً لقراءته، كما جاء في كتاب «ثريا النص-مدخل لدراسة العنوان القصصي» لأستاذنا (محمود عبد الوهاب) الذي نعتقد، انه أول مَنْ بحث هذا الموضوع في المعطى الثقافي العراقي وربما العربي، وله الريادة في هذا المبحث الحيوي، إذ صدر كتابه عن (دار الشؤون الثقافية-بغداد-عام 1995). وقد أشار أستاذنا (محمود عبد الوهاب) فيه، بأنه استعار مصطلح (ثريا النص) عن مقالة للناقد (د. حاتم الصكر) والذي بدوره ينسبه إلى (جاك دريدا)، وقد تنبه لمسألة العنوان، بداية الشاعر الفرنسي (ملارميه) الذي تطرق إلى(( الثريا)) الواقعة في سقف النص عند قراءته لقصائد الشاعر (موريس جيلمو). لكن أستاذنا (محمود عبد الوهاب) رَحَله من حقل الشعر إلى حقلي القصة والرواية. كما ان (ياكوبسن) قد بحث العنوان بصفته مُكَوناً من بنية النص وذكر أن له أكثر من وظيفة بعضها المرجعية المركزة على الموضوع ووظائف أخر منها التحريضية والأيديولوجية وغيرها. ثمة في (المروءات. غادرت بلادي) أسئلة متواصلة عن فجائع للمصائر الإنسانية المغيبة، وما يبعثه ذلك من أسى لتحقيق توصيفات لها عبر بؤر تتجسد في شخصيات تقبض عليها الذاكرة لمغالبة الحاضر ومرارته. يفتتح (الوائلي) مجموعته الشعرية بقصيدة مطولة (ص 4 -28)، يهديها الى «كامل شياع. حصراً» الكاتب والباحث المثقف الوطني -التقدمي، والمستشار الأقدم لوزارة الثقافة العراقية، والمغدور في قلب بغداد-نهاراً:
«» تكابير..
في صلاة الروح،
تعالت في ضمائرنا.
بكاء الهمس ترانيم يصافحنا،
شهيد في عيون الليل،
مصباح يودعنا «
*
« فهذي الدنيا عاتية
وصار الموت تسيرا
وصار الشوك في حيتانه غارا!!»
*
« هضيمات ليالينا،
تستبكي بحد فاقه الحد.
وفي الأعماق تنهد.
عصافير زغيبات بقت تحدو
وحتى الريح بثوب الحزن،
صاغرة..
بدت تشدو!!».
*
« يمر النعش «مزفوفاً» على الاكتف
حناجرنا..
تشق عتمة الليل به تهتف.
زوابع دق الطبل
في ترحاله أمس.
علا صوت..
رفيق الدرب توسد تربة الرمس».
الشاعر» الوائلي»، يراقب ملامح مدينته، ويتابع بعض شخصياتها الدالة عليها..تلك الشخصيات الخارجة من فجائعها لتقترب من حواف الموت أو الغياب، بفعل قوى قاهرة متعددة, وتتميز بأفعالها الوحشية المتواصلة ، هناك وطن بأسره يترنح أو قد يتصدع ومعه شعبه يذبح يومياً. لكنه -الشاعر -مع عنوانه وضجيجه (الصادم) هذا، فإنه، في المتن، يفتح فسحة لأملٍ ما:
« فابشري
يا ارض جدي
أنتِ
ثورة في عروقي،
قد تسامت كبرياء ،
فتلاشى..
صوت ذاك البوم،
من قلب المدينة
واتى الخصب يغني بالمزامير الحنينة»(ص-59).
تنوعت المجموعة، (146 صفحة -23 قصيدة)، بين شعر التفعيلة الذي اعتمده (الوائلي) في مجموعتيه السابقتين، وبعض قصائد النثر القصيرة التي تنبني على الأسئلة الحارقة والومضات، كما في الصفحات (62 -67 -78 -98 -104-110 -114 -118 -122). والقصائد فيها تنطق بأفكارها ضمن مسار تلقائي -انفعالي، مما ينعكس على لغته الشعرية التي تقدم نفسها، غالباً، ضمن صيغ كلاسيكية، وبعضها، تفتقد الغنائية والتي لابد منها شعرياً، لكن دون إسراف. فالشعر في كل الاحوال والازمان، لا يصح أن يكون مجرد جهد لغوي، أو طبقات صورية فوق طبقات فحسب، ما يجعله مجرد تجريد ولعب بالكلمات، أو قوالب لغوية، يتم التلاعب بها، فلابد من طراوة، تشع في الشعر والكتابة عموماً، وتخلق الهوى والافتتان والإدهاش، بين الشاعر أو الكاتب، في كل المجالات، و(المتلقي) على حد ما ذكره المفكر الفرنسي (روجيه غارودي)، في «ماركسية القرن العشرين»(ص 205 -دار الآداب -بيروت ترجمة -نزيه الحكيم -ط 2 -1968)، والذي بدوره يعيد هذا القول الى (كارل ماركس). قصائد الشاعر (جبار الوائلي) في «المروءات.. غادرت محطات بلادي» تنهل من الواقع العراقي المعيش ومصادفاته الغريبة والملتبسة، وتشكل انعكاساً لفجيعة الحياة العراقية اليومية القاسية -الشاقة الراهنة، وتسعى لأن تجسد أشكال المعاناة فيها، كما تحاول أن تسجل شهادتها حول قحط وبؤس هذا الزمن المتميز بعنفه ومراراته.

  • منشورات -اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة -دمشق -دار تموز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة