العراق الآخر

“التوافق على وقائع التاريخ المشترك، يعد شرطاً جوهرياً للحرية” حنة أرندت
كثيرة وقاسية ومريرة هي الفواتير التي ما زال سكان هذا الوطن القديم؛ يسددونها من دون أن تلوح في الافق أية اشارة على امكانية الانتهاء منها على المدى المنظور. عجز وفشل لا مثيل لهما رافق العراقيين في مهمة التأسيس للعيش المشترك على اساس من القوانين والتشريعات التي تنتصر لحرية الانسان وحقوقه من دون تمييز على اساس “الهويات القاتلة”. مخيلة وعقول أفضل ما أنجبته هذه البلاد العريقة، لم تكف يوماً عن هدهدة حلم او مشروع ولادة “عراق آخر” لا يتصدر واجهته القتلة واللصوص والمشعوذين وحثالة المجتمعات، وباقي القوافل والعصابات المتخصصة بسحق سر قوة العراق وتوهجه، أي تعدديته وتنوعه الثقافي والاجتماعي والقيمي. كثيرا ما يتم التطرق لهذه الانسدادات التاريخية، لكنها غالباً ما تكون عابرة وعاجزة عن الوصول لعلل تلك الاخفاقات، حيث يتوقف البعض متحيراً عند سر حيوية فلول النظام المباد وجرأتهم على تزويد المشهد الراهن بنسخ متعددة من الواجهات السياسية والنقابية والاعلامية والثقافية، بالرغم من مرور 16 عاماً على زوال أبشع تجربة توليتارية عرفتها المنطقة في تاريخها الحديث. المشرط الخارجي هو من استأصل ذلك الوباء وبث لنا صور انتشال شيخ القوارض من جحره الأخير، اما ما حصل بعد ذلك فيعود الى نوع مواهب واهتمامات، من حسم امر اسلاب ذلك النظام واطيانه وعقاراته. القوافل التي حوسمت ما بعد مشهد سقوط الصنم في ساحة الفردوس، هي من شرعت الأبواب لاعادة تدوير هذا الارث الطويل من اللصوصية والاجرام، وقطعت الطريق امام ما يفترض انها مرحلة لتأسيس عراق آخر، يعيد فيه سكانه صياغة “وقائع تاريخهم المشترك” والذي تعده حنة أرندت شرطاً جوهرياً للحرية.
هذا الشرط الذي ما زال مقصياً وبعيداً عن حياة العراقيين، والتي ولجت بهمة المتصدون للدفاع عن طوائفهم وعصبياتهم القبلية وغير ذلك من الهموم القاتلة، الى اطوار من التشرذم وانعدام العقلانية لم يعرفها العراقيون في تاريخهم الحديث (1921-2019). اجواء واصطفافات ومناخات كفيلة بصياغة كل ما يلزم من اجل التوافق على تزييف وقائع التاريخ، وردع كل من تسول له نفسه بالاقتراب من ثوابتهم وتقاليدهم وسردياتهم التي نبذت الحرية منذ اكثر من الف عام وعام. غير القليل ممن قذفتهم الصدفة والاقدار العابثة الى سنام المواقع والسلطات؛ يطلقون التصريحات والخطابات الرنانة حول التغيير والاصلاح وغير ذلك من الوعود؛ من دون الالتفات الى مثل هذه الشروط التي دونتها الامم الحرة بعد مشوار مرير وهائل من التضحيات والفتوحات العلمية والقيمية. المشهد الحالي يعج بالحطام البشري (متملقين ومشعوذين واتباع …) لأسباب تطرقنا اليها مراراً، حطام يفتقد لاهم خصائص الملاكات الجديرة بالتصدي لهذه المهمة، وهي الشجاعة والوعي وروح الايثار؛ سيبقى بيئة حاضنة لكل أنواع البدائل والواجهات التي تعيق الشروع لتحقيق شروط الحرية الحقيقية التي يسترد بها العراقيين وطنهم واحلامهم المشروعة من قبضة قراصنة المنعطفات التاريخية.
في وصفه لما شاهده من احداث وصور لما طفح من جنون وهموم بعد “التغيير” قال احد المراسلين الاجانب: (التاريخ لا يريد أن يرحم العراق) لما لمسه من سطوة للماضي ومدوناته التي سطر غالبيتها العظمى شريحة وعاظ وفقهاء السلاطين وسلالات الحبربش…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة