الشعر بوصفه علامة قراء في تجربة الشاعر عبد الحسين بريسم

غسان حسن محمد

هل انتهى زمن الشعر؟ هل الشعر ضرورة؟ هل الشاعر عنصر نافع في المجتمع، ام أنه فائض عن الحاجة؟
هذه الاسئلة لم تكن وليدة لحظتنا الراهنة، بل كانت مثار جدل لم يصل الى اجابات قارة الى اليوم.. منذ افلاطون وهو يهندس (مدينته المثالية)، ويؤثثها بلوازمها وتوابعها.، افلاطون الذي ابعد الشعراء عنها بعدِّ شعرهم منافياً لقيم الحق والعقل والحقيقة..، اسبغ عليهم صفة الزوائد التي لا قيمة لها في مجتمع مدينته الفاضل وأنهم- الشعراء- الاخطر على النشء وتربيتهم واكتسابهم المعارف والعلوم..معللا – بأن الشعراء يتلبسهم ربٌّ او شيطان- يفقدهم القدرة على التمييز والادراك وأن ( الحالة الشعرية) هي ( شطح باطني اغتباطي) يجعل الشاعر يعيش في عالم مفارق ولايتصل بالواقع.
تلك الصفات التبخيسية، نالت من حضوة الشاعر.، لم يسعفها وينتشلها من بركة السلبيات، كلام الله تعالى في البعض من الشعر والشعراء بنعتهم بالغواية والتهيام على غير هدى، مخادعون..، يقولون ما لايفعلون.
تبع تلك النظرة في الازمنة الحديثة، ماذكره فيلسوف الوجودية (سارتر)، من ان الشاعر (غير قادر على استعمال اللغة)، يقصد اللغة ببعدها (الاداتي) و( الاتصالي).. وأن الشعر يعبر عن (شيء) في ذاته.، بسلبية مجردة منغلقة على ذاتها..، ولا تتموقف تاريخياً وسياسياً مع ما مايحدث في الواقع، فالشعر حسب (سارتر) دلالة لامتعدية.. على العكس من الفن الروائي الذي عده سارتر متعدياً ذرائعياً يمتح موضوعاته من الحياة.، يواكب تطوراتها..لرحابة الرواية وسعة عوالمها ونجاعة تعبيريتها..فهو فن العصر كما ادعى سارتر.
الشعر مهارة يمكن تدبيرها عبر اللغة.، فهو لاينحاز الى اللغة بتراكيبها ومفاهيمها وقواعدها المسكوكة منذ الازل..بل ان الشعر الاشراقي يعمد الى الانزياح عن اللغة ويعمل على تثوير ممكناتها وتفجير طاقاتها بغية التحديث والجدة في خلق شعرية باذخة الجمال والمعنى..، كسر معيارية اللغة المقعدة منذ النشوء.، لغة تلغي صدأ الكتابة القديمة وتعلو على رمم الاساليب المستنسخة الرديئة.
الشعر ليس دلالة بل هو علامة تدل القارئ والسامع على انبثاق المعنى البكر..اي اللغة بدرجة الصفر..لكل شاعر لغته الخاصة المبتعدة عن المألوف، المغايرة عن ما هو مطروح من اشكال وفنون، مجترحاً قاموسه الخاص ..مخلقاً لابداعاته..هنا تتجلى لغة الشاعر عبد الحسين بريسم في نحت مفرداتها واثراء فكرتها ونصوصها التي ضمتها مجموعته (ديوان البريسم)..يكتب بأسلوب السهل الممتنع وتلك لعبة خطرة..تحتاج الى ذكاء ومهارة ودربة في المحافظة على عناصر الشعرية وفخامة حضور اللغة وجزالتها وقوتها التعبيرية وتوسع مدياتها معرفياً وجمالياً:
– ماخشيت طريق الشعر لقلة سالكيه،
زادي صبر وحفنةُ ضوء
تكفي ليرقد هذا العالم
في قلبي بسلام. (عراقي يدخن بدرجة حرارة انفجار،ص21)
هل الشاعر منفصل عن مشاغل وهموم الحياة في مجتمعه؟ هل يلزم ان يشارك في المضاربات السياسية والمراوغات الميكافيلية الحزبية ضيقة الافق؟ ان يعتنق ايديولوجيا ما او ينحاز اليها؟ ام ان الشعر فوق السياسة، له تخليقاته لعالم يهمه ان تعلو فيه قيمة الانسان وتزدهر فيه الانسانية والقيم الحرة النبيلة.
يذكر (بلزاك) انه يكتب بوحي من حقيقتين أزليتين هما: النظام الملكي والكنيسة الكاثوليكية! لكن رواياته كانت تحمل قوة ثورية وتحريضية عظيمة على الظلم والاستبداد الذي يطال المجتمع.، ذلك لايعني ان لايمارس الشاعر دوراً سياسياً او لاهوتيا او ان يعتنق ايديولوجيا ما..شرط ان لا ينتقل ذلك التأثير على كتاباته فيسمها الابتذال والطابع البروبوغاندي ومن ثم يكون مآلها النسيان.
كانت قصائد الشاعر البريسم تحمل بين طياتها هم الوطن والانسان العراقي:
– احلم أنني على وطن،
أرقد بسلام واسير بالوطن الى سرير سلام
بعدما أخذتني الكوابيس الى الحروب.،
والمقابر.، الديون بالعملة الصعبة..وتبدل الوجوه،
أصعد سلم السلطة.. اتعثر برؤوس الطغاة..والصالحين
آه..كم صعب سلم السلطات! (ديمقراطيتي حبكِ والبلاد، ص34).
– أنا العراق..وأخوتي البئر.. لا اشتري بدراهم ليست معدودة..
أنا خزائن الارض..وأنا المنتظر..أنا سيد الشعر
وأول من خط على البردي. (معلقة أخوة العراق، ص44)
– الجنوب الذي ينام مبكراً
ويصحو من الجوع.،
تمنيتُ أن تكون البلاد..حضنٌ دافئ..
وصدرٌ حنون..وما خلفهُ منفى وظلام. (أمي وقمر الحوت، ص62).
تعكّز البريسم في بث رؤاه وأفكاره وخيالاته الشعرية على «روَّحنة» الصور والخيالات والاستعارات.، اذ كان يمسك عصا البويطيقيا من المنتصف بين المحسوس واللامحسوس، المرئي واللامرئي، الواقع والميتافيزيقيا.
أدبيات وحكايات اسطورية ونصوصٌ مقدسة..وظفت في معمار قصيدة البريسم تعلو سحنة كتاباته هالة قدسية تمس الوجدان وتتآصر مع فواعله، يشير الى توظيف المقدس في النص الشعري ومدى اهميته في فردنة النص وانفتاحه على مساحات دلالية وتأويلية تنتج قصيدة باذخة الرؤى والمعطيات الانسانية النبيلة..، الشاعر الفرنسي « موريس بورغ» بالقول: (أن تكون شاعراً في زمننا هذا، حيثُ لا شيء يسرُّ العين، يعني أن تغني وأن ترهف سمعك الى آثار خطو الالهة المتوارية، لهذا السبب، ومنذ أسحق عهود التأريخ يهيم الشاعر بالقدسي في الكون)» عن الشعر في زمن اللاشعر/ رشيد بنحدو/ ص38، كتاب دبي الثقافي143).
مرجعية الشاعر البريسم القرائية والتراثية والشعبية وظفها في نتاجه الابداعي، فاستولد الجمال من القبح.، والزهر من الشرّ :
أريدُ بلاداً أوسع من رقصة سعف النخيل،
اذا ما قبلَّتهُ رياحٌ عاشقة. (غزل حاد ص64).
المرأة حضرت بقوة ووفرة في اغلب قصائد الشاعر..ليس حضوراً وجودياً، حسّياً، روحياً فحسب، بل حضرت كمعادل موضوعي لثيمة الوطن..، يذكرنا ذلك بقول الشاعر «رسول حمزاتوف» وهو يؤالف بين المرأة والوطن بالقول:
شيئان في الحياة يستحقان المنازعات العظيمة
وطنٌ حنون، وأمرأة رائعة.،
اما باقي المنازعات فهي من اختصاص الديكة.
كم كانت المرأة والوطن يشغلا الدنيا وفيهما يضع البريسم دمه حبر قصائد:
– أنتِ أمرأة أم وطن
هدَّ عيونهُ التحديقُ بالمدى
لم يعد ابناءه من المنافي
أريد لحظةً أقرأ فيها قصيدة غزل بريء
وان شابه بعض جنون،
ولا تسقط بالقرب من حروفها
شظايا طائفية
ولاتسرق عذريتها صلابة الحواجز الكونكريتية.( ثمة حب وبعض أمل ص66-67).
– قالت..
قد نلتقي او لا نلتقي
وأغمضت جفنين من وطنٍ وغربة. ( قمريات، ص97).
قصائد الشاعر عبد الحسين بريسم، تنوعت اسلوبياً بين قصائد «الشذرات» والقصائد السيرية الطوال والحكميات. قصائد تهتم بالمحتوى دون الشكل..،توجز فكرٍ وبنيات وجدانية تتذاوت فيها ذات الشاعر مع الشعراء ومع ذوات الآخرين.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة