حندج بن حجر!

لو عاش امرؤ القيس الشاعر الجاهلي العظيم في عصرنا هذا لرمي بالعمالة، وشتم في وضح النهار، وقوطع من اتحادات الأدباء والقنوات الفضائية. رغم أن جل هؤلاء ارتكب مثل ما ارتكبه هو من جرائر، ووقع في نفس ما وقع فيه من أخطاء.
وربما وصم حندج بن حجر (وهذا هو اسمه الحقيقي) بالاستقواء بالأجنبي بعد أن أعيته الحيلة، واستبد به اليأس، وسار للقاء قيصر الروم في القسطنطينية. ولم يكن القيصر ليوافق على لقائه لولا أنه ملك وابن ملك. فليس لديه متسع من الوقت للقاء أي كان. ولم يكن هو البادئ بذلك، فقد سبقه ملك الحيرة المنذر، الذي انحاز لخصومه وقرر أن يزج بجيش الفرس ضده. وكان لا بد من (تدويل) الصراع حتى لا تذهب مملكة كندة أدراج الرياح!
والقضية التي ثار من أجلها حندج ليست سهلة أو عادية، بل هي في غاية التعقيد والصعوبة. ومن أجلها قطع حياته العابثة في حضرموت وسواها من بلاد العرب. فقد انقلب بنو أسد على أبيه حجر بن الحارث، وفتكوا به، ثم قوضوا عرشه. وكان لا بد له بعد أن عجز أخوته أن يسعى لاستخلاص هذا العرش. فجمع أتباعه وجد في طلب الثأر، حتى أوقع الهزيمة تلو الهزيمة بأعدائه. وعرض عليه بنو أسد الصلح فأبى، وأصر أن يبلغ القتل منتهاه. وكان لا بد للمشكلة أن تخرج من بادية العرب لسهول العراق والشام، وهكذا كان.
لقد كانت استعادة ملكه المضاع مهمة تهون من أجلها الصعاب، وترخص أمامها المنايا. حتى إذا ما أوشك صاحبه على التراجع، وبكى من هول الموقف، أنشده البيتين الهائلين (بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه / وأيقن أنا لاحقان بقيصرا / فقلت له لا تبك عينك إنما / نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا)!
ومع أن القيصر جيستنيان أعجب بالملك المخلوع، ووعده أن يستعيد له ملكه، إلا أنه لم يف بوعده. فالدخول في حرب مع فارس من أجل مملكة صغيرة مثل كندة، ليست مغامرة هينة. والتوغل في رمال جزيرة العرب، أمر لا يمكن التكهن بنتائجه. لكن الشاعر عاد وهو يظن أن القيصر لن يتأخر في نجدته. فلما وصل إلى أنقره مرض ومات، ومات معه حلمه إلى الأبد.
ولم ينس القيصر هذا الشاعر الجميل، بعدما سمع بمأساته، فأقام له تمثالاً ضخماً في القسطنطينية كان شامخاً في عام 1262. أي قبل أن يفتحها العثمانيون بحوالي قرنين من الزمان.
لقد كان البحث عن الخلاص لدى دولة عظمى في ذلك العهد وهماً من الأوهام، مثلما هو حاصل الآن. ولو تصالح امرؤ القيس مع خصومه فربما استعاد شيئاً من ملكه. ومع ذلك فقد كسب الأدب العربي الكثير من نزعته المتسمة بالعناد والمبدئية. وتفجرت موهبته العظيمة بهذه الحادثة الجسيمة، فأخرجت للعرب أحد أعظم شعرائهم على الإطلاق.
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة