أشياء تحكى في.. «عن لا شيء يحكي»

يوسف عبود جويعد

مهمة قائد الجوق الموسيقي، ليست سهلة كما نظنها، ونحن نتابعها وهو يحرك عصاته الرفيعة، والتي من خلالها يتلقى أفراد الجوق الإشارات والإيعازات التي تتعلق باللحن الذي يتابعه من خلال النوتة الموسيقية الموضوعة أمامه،فهو حلقة الوصل بينهما،وهو أيضاً الذي يجب عليه أن يكتشف مدى تناغم وإنسجام الآلات الموسيقية مع اللحن، وكذلك إنصهارها وتوحدها لإيصال النغمات بإيقاعها وإنسيابيتها المطلوبة،كما أن عليه تلافي أي نغمة تخرج عن سياقها،وبهذا يستطيع إخراج العمل الفني من دائرته الفاعلة الى الجمهور وفق السياق الفني المبتغاة، من هنا نستطيع أن نلج الى رواية (عن لا شيء يحكي) للروائي طه حامد شبيب، لإننا سوف نكتشف أن عملية إعداد هذا النص السردي يشبه الى حد بعيد قيادة الجوق ومتابعته، إذ نتفاجأ بأن من يدير دفة الأحداث وهو الشخصية الرئيسية فيها هو حمادي ابن عمران الفحام أعمى، فكيف يستطيع أن يقوم بعملية سرد الأحداث وهو لا يراها، بشكل يستطيع إقناع المتلقي بمعقوليتها، وهنا يلجأ الروائي الى معالجة فنية وفكرية يستطيع من خلالها تمرير هذا الإشكال، بأن يقوم حمادي الاعمي بنقل الأحداث من خلال العصا التي يحملها،حيث يقوم بالخربشة على الارض بخطوط تثير هذه الاحداث بشكل متخيل يستطيع فيه الدخول فيها ورؤيتها، وبهذا يكون قد نقل لنا بشكل مكشوف دون أن يسيء ذلك للعملية الإيقاعية والانسيابية وحركة السرد داخل النص، الأمر الآخر أنه (أي حمادي الاعمى) لايقوم بنقل حكايته وأسباب تدهور حالته الصحية والمعنوية والمادية، وهدم بيته الذي يسكن في جزء خرب منه، وملابسه الرثة، ولحيته الكثيفة الكثة،للمتلقي بشكل مباشر ، بل أنه يحكي ذلك لأصدقاء اربعة جاءوا خصيصاً للوقوف على الاحداث التي مرت به، لنكون بين حكايتين اولاها حياته واصدقاؤه والخمر الذي يجلبونه وهم يزورونه يومياً وما يحدث فيها،والثانية تلك المغلقة والتي لا تظهر الا بعد أن يقوم حمادي الاعمى بسردها، التمرير الثاني هو تطعيم اللغة العربية باللهجة العامية العراقية، كونه يبرر ذلك بأن حمادي إذا شرب الخمر يتكلم باللغة الفصحى، وعندما يكون صاحياً يتكلم باللهجة العامية، وإستغل الروائي هذا الجانب ليجعل من هذا النسق متنفساً مرحاً يسر المتلقي،إذ أن حمادي الاعمى كلما نطق كلمة بالفصحى لها أثرها يقول( الفضل كل الفضل للراديون) هكذا ينطقها أو يذكر الشيخ موسى الذي حفظه القرآن فيقول( هذه من الشيخ موسى)، وهكذا إستطاع الروائي إستخدام لغة سردية مرنة بين الفصحى والعامية بشكل لا يثير الإستغراب،أما بنية العنونة فنجد تفسيرلها في متن النص:
( اخوان الحكي عن لا شيء حكي لا ينتهي.. لأن اللا شيء كبير كبير جداً..أقضي عمري كله في الحكي عنه ولن ينتهي الحكي. ليش؟.. انا أقول لكم لماذا.لأن الشيء واضح ووجوده معروف.. قصدي تستطيع ان تؤشر على الشيء وتقول هذا هو الشيء. أمّا اللا شيء فهو غير واضح المعالم وجوده غير معروف)ص 165.
وفي ذلك رؤية فلسفية واعية مفادها، أن بطل هذا النص أعمى وهو بذلك يتخيل الاحداث ويقوم بنقلها، أي أنه لم يراها كرجل بصير يستطيع لمسها كما يلمس أي شيء، وهكذا يحس بأنه عن لاشيء يحكي،وهذا لا يعني أن الأحداث متخيلة بل أنها تدور في ارض الواقع ، ولكنها خرجت من وسط الظلام ، وهي لا تخلو من تلميحات رمزية كثيرة يمكن للمتلقي أن يكتشفها وهو يتابع حركة السرد في النص،
ومن خلال الحكاء حمادي الاعمى،الذي يخربش بعصاه على الارض امام عتبة البيت الخربشات التي تستحضر الاحداث التي حلت به، فينقلها لاصدقاءه ونحن نكون معهم، نتابع كما يتابعون هم، لنرحل معه وأسباب أصابته بالعمى في سن مبكرة، وهذه سوف أتركها للمتلقي هو يكتشفها، ثم نعرف أسرته المكونة من الاب والام وثلاث أخوة واثنان بنات هن حمدية ورضية، أبوه يعمل مع أخوه في الفحم لذا أطلق عليه لقب عمران الفحام، وحمدية أحبت حمزة إبن يوسف البقال الذي كان يخرج بالمظاهرات للشيوعيين وهي كانت تخرج معه تحمل اللافتة، مما أثر ذلك على سمعة العائلة، فقد شاع خبر حبها من حمزة.
(.. أعصر دماغي وأنا أحدّد نظري في الأشكال المتراكبة على الارض.أرى حمزة يتجه بنا نحو المجموعة التي تتدرب على الخروج بالمظاهرات. نصير وسطهم فنسمع الشخص الذي يُلقّنهم الهتافات. أرى وجه حمدية ينكمش..إنها أختي وأعرفها جيداً..أعرف تغيرات وجهها منذ كانت تلاعبني وانا صغير قبل ان اعمى.)ص62
وهكذا ندخل الأحداث التي نسجتها مخيلته من واقعها وهو يقوم بسردها لاصدقاءه، أما الأحداث التي تخرج من إطار تلك الاحداث فيقوم بمهمتها واحد من الاصدقاء الاربعة،دون أن يطلق عليهم أسماء أو حتى يرسم ملامحهم لأنهم وسطاء فقط لسماع الاحداث للوقوف على حالة حمادي الاعمى.
( تأخرنا عليه في سهرة اليوم. لم نصل الى بيته حسب الموعد. أي بعد آذان العشاء بقليل. ما كان أمامنا، نحن نختار موعد وصولنا اليه كل يوم، إلا أن نعتمد على صوت يسمعه هو في وقت لاحق) ص 67
وفي الوقت الذي يصاب فيه حمزة ابن يوسف البقال بهراوة على رأسه أفقدته ذاكرته، تكون حكاية حبهما على كل لسان، وكان حمادي كلما خرج لعتبة الدار يسمع صوت أحدهم يقول: حمادي أنت حمار وقوّاد،إغسل عار اختك،فيطلق الاب الام لعدم اجادتها تربية بنتها ويصاب بالسل،ويموت إثر ذلك، بينما يجتمع الإخوان ليقرروا الانتقال الى مكان آخر ويعملون هناك،لانهم لا يستطيعون قتل حمدية التي جلبت لهم العار، وترفض حمدية الانتقال معهم وكذلك حمادي الاعمى الذي ظل معها من أجل إيجاد حل لمشكلتها مع حمزة التي تأزمت بسبب فقدانه الذاكرة .
( حمدية وسط الهوسة العارمة، تلاحق حمزة تصيح بأعلى صوتها.. هكذا تسمعها مخيلتي.. تشجعه على أن يتذكر..لخاطر الله تذكر.. كل اللي تعرفهم موجودين هنا..إفتح عينك زين وشوف. لازم لازم تتذكر..أنت حمزة ابن يوسف البقال وآني حمدية بنت عمران الفحام.. البنية الحلوة اللي كنت تموت عليها.وهو يصرخ : خليني أشوف دربي يابنت الناس.. آني بأي حال وانتِ تريديني أتذكر آني منو وأنتِ منو!!.) ص 81
وهكذا وكما تتحد الإنغام وتنطلق الآلات الموسيقية بكل أنواعها، الوترية، والنفخية، والإيقاعية،فتتصارع في أوتون اللحن متفاعلة متصاعدة، فإن الروائي يقوم في هذه المهمة في قيادة دفة الأحداث التي تأزمت بعد خروجها من حبكتها،لتبلغ مرحلة الذروة، بعد أن نكون قد خضنا في تفاصيل محاولة حمدية لإعادة ذاكرة حمزة، وتفاصيل أخرى أخرجتها عصا حمادي الاعمى وهو يخربش بها على الارض.
فنكون مع الصراع القائم بين الذين يسمونهم شيوعيين وبين الذين يسمونهم القوميين الجدد. هكذا أراد الروائي إطلاقها دون إعطائها صفتها الاصيلة، ويكون حمزة قد ترك الشيوعيين وانضم الى القوميين، ليكون معهم ومع أصحاب (الدشاديش) القصيرة، والقضاء على القائمقام، وإستلام دفة الحكم، ونكون مع علاقة حمادي الاعمى وزهرة العمية، وينقل لنا حمادي تفاصيل عن هؤلاء وهم يجلبون النساء الشيوعيات ويمسحون وجوههن سائل اسود لزج لايمكن ان يزاح ولايغسل بالماء والصابون، عندها يعرف حمادي أن الدور على اخته، بعد أن أدخلوا حمزة في أختبار أن يصب على حمدية هذا السائل الاسود. لأنها شيوعية
( حمدية بخطر، تفهمين شنو خطر؟..حمدية راح يسخّم وجهها الاشخاص الغلاظ اصحاب الدشاديش الموجودين بمبنى القائمقامية. تقول لي زهرة: حمادي اشلون يسخمون وجهها؟. اقول لها يسخمونه بسائل أسود لزج يشيلة ابن يوسف البقال بطاسة.. هذا ابن يوسف البقال شايل الطاسة وواقف بوسط الغرفة، والأشخاص أهل الكروش اللابسين دشاديش واقفين حوله ينتظرون إشارة منه.)ص 272
وهكذا ينهار حمادي الأعمى الذي شهد نهاية عائلته وإخته، ويبدأ بتهديم البيت طابوقة طابوقة، والناس خلفه تأخذ بإهتمام ودون وازع ضمير ما يسقط من عملية التهديم هذه، وهكذا يكون البيت خراب.
( حمادي لايرى، إنما قلبه الذي كان يرى في تلك اللحظات. فيجهش حالاً في البكاء..بكاء مرير. ثم وهو يبكي رفع صوته عالياً عالياً يُسمعه للمدينة بأسرها: ألعن أبوكم وأبو كل منْ يخاف منكم ياسفلة. في تلك الأثناء كان الناس يقفون أمام جبهة الارض الخلاء الخربة، على حافة الشارع، يتفرجون على دُرّة تغطس، ومعها صغارها في بركة دم واحدة.) ص 317
ليطلق تساؤلات كبيرة، من هي تلك الدار التي خربت وهدمت، ومن هو حمادي الأعمى،ومن هم السفلة؟. وما هو الرمز المضمر خلف الأحداث، كل هذا سوف نكتشفه ونحن نتابع الجوق السردي الذي يقوده الروائي طه حامد شبيب، في روايته ( عن لاشيء يحكي) لتتضح لنا معالم هذه الاحداث، فهل كان حمادي الاعمى يحكي عن لا شيء، أم أنه شيء كبير!!!.

من إصدارات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق لعام 2019

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة