السيادة ثقافة

 وسط سحب العجاج الكثيف الذي خلفته الهرولات الأخيرة للكتل صوب ما يعرف بالوزارات السيادية، بالمعنى الذي تعارفت عليه قوافل الأسلاف عند أطراف الوليمة الأزلية، انكمشت وزارة الثقافة الى قعر قائمة اهتمام الكتل والجماعات المحظوظة بسلع الفتح الديمقراطي المبين من عبوات بنفسجية ومفوضية وصناديق. وبالرغم من تفاؤل البعض من مصير هذه الوزارة المنكوبة بطالعها المنحوس لأكثر من نصف قرن، في التشكيلة الحكومية الجديدة، عندما أكرمتها قرعة المحاصصة بوزير أقرب من اسلافه الى هذا الحقل الحيوي (الثقافة)، الا ان مهمة النهوض بهذه الوزارة، والتي تعرضت لأحد اشد وابشع واطول برامج التخريب المنظم، هي مهمة شبه مستحيلة، واقرب منها للمهمة التي القتها الآلهة على هرقل لتنظيف اسطبلات أوجياس.

إنّ هذا الموقف من الثقافة ووزارتها يعكس لا واقع هذه القوى والكتل المتنفذة وحسب بل حالنا جميعاً كأفراد وجماعات، خاصة من يشغل منهم المواقع الثقافية، ولعابه يتناثر عند أطراف الوليمة الحكومية.

السيادة الحقيقية لا الاستعراضية، تكمن في هذا الحقل، لا في الفزعات والاهازيج الخاوية، كما شاهدنا جميعاً في النتائج التي تمخضت عنها آخر الغزوات الهمجية على تضاريسنا وثغورنا وأكثر من ثلث مساحتنا الوطنية. هذا الدرس الذي لا يريد القائمون على أمر التجربة الفتية الالتفات اليه، بسبب من علاقتهم غير الودية وهذا الحقل الحيوي (الثقافة). وهذا والحق يقال جزء من تقاليد راسخة وطدت اعمدتها أكثر من اربعة عقود من الهيمنة المطلقة لنظام وضع بدعة السؤال والقلق المعرفي على رأس قائمة المطلوبين له حياً أو ميتاً، ليختزل الأمر لاحقاً بالعبارة الشهيرة: (اذا قال فلان قال العراق).

وها نحن نتابع بدهشة كيف تقتفي الهرولات الجديدة أثر تلك الرسالة الخالدة، في التربص بكل من تسول له نفسه الامارة بالبدعة والضلالة والسؤال. هذه هي الارضية والشروط التي ترفد كل المتناهشين في المشهد الراهن؛ قوتهم وحيويتهم الدائمة، وهي من تقدم لهم كل مستلزمات الاستمرار في حروبهم ضد البشر والشجر والحجر.

لهذا ومع مثل هذه الهموم والاهتمامات الرائجة حالياً، وحيث الغالبية العظمى من وسائل الاعلام الورقية والسمعبصرية والمنابر من مختلف الوظائف والاشكال تكرس كل امكاناتها ومواهبها وتمويلها العابر للحدود الوطنية، لتزييف الوعي المنحط اصلاً، وفتل عنق الحقائق والاحداث صوب المسارب المهلكة؛ يكون أمر الثقافة ووزارتها من الامور التي ستلتحق عاجلا أم آجلاً الى ارشيف القضايا الخاسرة في حقبة دعشنة المجتمعات والدول.

فالسيادة الفعلية لا يمكن ان تحصل في مضاربنا مع مناخات الغيبوبة والانحطاط الثقافي هذا، ولن نتحرر مع مثل هذه الكتل والمخلوقات التي لا تجيد غير اعادة الروح للعسكرة، وتحويل مستوطنتهم القديمة الى مكب لنفايات الامم الاخرى.

 

جمال جصاني

 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة