قيس مجيد المولى
تُشكل الواقعية لدى أغلب كتاب القص في أمريكا اللاتينية الرافد الأهم في مضامين نتاجهم القصصي والواقعية التي نقصدها هنا ليست واقعية الوقائع الكبرى ذات الأثر الفعال والحاسم على حركة المجتمعات والشعوب وليست الواقعية السِّحرية ، بل هيَ واقعية الأحداث اليومية للفرد ومعطيات هذه الأحداث وقطعا أسبابها ونتائجها ، ويقينا أن التواصل مع هذه الأحداث وسبر هواجسها وبنائياتها يقدم للمتلقي شكلا من أشكال الإنصياعية للإستمرار في الوصول الى النهاية التي يؤل اليها القاص من تلك الحبكة أو ذلك الإستدراج لمانسميه عادة بـ الشخصية المركزية في القصة القصيرة وما يلازم هذه الشخصية من متممات تلك الشخصية ضمن الإطار العام الذي يقيمه القاص عند الدخول لمنتجه وتحريك موجوداته وإدامة الزخم ، زخم اللغة زخم الإسترسال زخم المفاجأة زخم الإضافات التي تأتي ضمن تحريك الشخوص والأماكن الإضافية مع إحتساب البيئة التي ترتكز عليها عملية الإنتاج ومع شيء مسبق لوضع ترتيبات للمفارقة ضمن إنتقالات الحكاية وتطوير مداخلها وتشعباته ،ولعل البدايات في(الثلجة الأولى ) قصة التشيلي المولود في بيرو خوليو رامون ريبيرو أحد أبرز كتاب القصة القصيرة في أمريكا اللاتينية البدايات أمامَ إسلوبه المؤطر بالشعرية ذات المرجعية العاطفية ومبناها التصويري المصحوبة بالحوارات المختصرة والمكثفة المعنى لتحقيق الضربات الإنتقالية من مشهد لأخر وفتح أبواب إضافية عبربوابة المدخل الرئيسي وكأن القاص ريبيرو أراد أن ينظر لشخصه أو بطله المركزي من جهات متعددة ومن مقتربات داخلية عبر القنوات التي تربط تلك الأبواب بعضها مع البعض وهو في كل مشهد يضيف وصلات جديدة تتركز على التحسس بحاجة النص القصصي الى المزيد من عناصر التوسع وإستخدام تقنية المفاجأة عبر موصلاته لتغذية الأحداث وتشغيل أمكنتها وزمانها وقطعا تشغيل هواجس الحاجات الإنسانية في بيئة تشكو من الفقر والعوز والفاقة والفساد والمخدرات والعصابات المنظمة وسياط الدكتاتورية ،ولعل من الجدير بالذكر أن القاص خوليو ضمن المتواجدين في قائمة الأدب الإسباني حاله حال العديد من كتاب أمريكا اللاتينية وعانى وزملاءه من تأثير اللغة الإسبانية على لغته الأم ،في قصته التي نحن بصدها والتي تتشكل ضمن ماذكرنا وماسنذكرهُ من المعايير النقدية التي تتشاكل مع العديد من قصصه ومنها (نسور منتوفة الريش- كعكات المرينغي – المأدبة- ديمترو .. وغيرها من القصص ) نجد أن الحيز المكاني حيزاً محدوداً ومعلوماً كرقعة جغرافية وكوظيفة ، فالقصة تبدا من نزيل في (فندق ) غرفة مستأجرة لرجل وهناك متسول لايجد ملجأ يأوي اليه ولكن الصدفة تقوده لهذه الغرفة ويلقي أمتعته بها ويأتي ليلا ليطرق الباب وينام على أرض الغرفة وسط نصف قبول من الرجل المستأجر ، وتبدو الأحداث هنا طبيعية بدايات قابلة للإنشطار بدايات قابلة للتوالد ومن الممكن جعل الحكاية تتجه الى أفعالٍ إدرامية أو سيل من السرد الفنطاسي أو غيرهما من الإسلوبية التي تعمل على تصعيد الإثارة وتكريس قضية ما ،وهنا نجد ان القاص خوليا رامون ومنذ البداية بدا يتسلسل بوقائعه مع المتسول تسلسلا منطقيا واضعا إنسانيته بكف وخوفه بكفه الأخر ، إنسانيته التي تحفزه لإيواء المتسول ليلا بعد أن ينام صاحب الفندق ويلقي المستأجر له المفتاح من نافذة الغرفة في الطابق الرابع بعد وضعه بكيس من القماش ، وخوفه من أن يكون هذا الشخص مطلوبا للشرطة بقضية ما ويكون الرجل المستأجر شريكا له بالجرم لإيواءه سراً ، ومن هنا تبدأ الحسابات لتنتهي بالمصادفة حين يعثر الرجل المستأجر ضمن حاجات المتسول البالية على دفتر يحتوي على نصوص شعرية كتبت باليد وعلى كتاب أدبي وتخطيط بقلم الرصاص لوجه سيده ومذكرات شخصية، يقول الرجل المستأجر (أي القاص ) يقول في الصفحة 17(لقد أثرتْ فيَّ وهزتني بعض أبياته الشعرية: «جندي يمضي في قفر الشتاء، يداه زرقاوان من شدة البرد. يداه، وكذلك ما بين فخذيه»). ربما لهذا السبب شعرت بشيء من الاهتمام بهذا الشاعر المتشرد.
يبدا القاص بعرض مشاهد عينية لرؤيا الثلوج وهي تتساقط على الشوارع وفوق البيوت والمحال وعلى مظلات المارة ومشاهد الناس التي تحتمي بعضها بالبعض أو التي تهرع الى مناطق أمنة ثم يبدأ القاص بعرض أفكاره ولكن الى أين تهرع ذاكرة المتسول وبماذا تفكر ذاكرتي الأن ، أفكر إذا حل الشتاء وأزداد الصقيع على النافذة ، سأقدم له كل ماأستطع وليقل عني أمام المتسولين الأخرين وفي الحانات الرخيصة بأنني رجل معتوه وأبله ، تأخذ القصة منحنى أخر ببدء التفاعل بين الطرفين ، في تلك الليلة تخلى له عن سريره :
ياتوروبا هاك سريري الليلة لأنك مصاب بالبرد وتذكر لليلةٍ واحدة وأنا سأنام على الأرض ،المؤكد هنا أن الأحداث ستأخذ شكلاً أخرَ ونعتقد ليس من الضرورة الإستمرار في تقديم مشاهد الأحداث وكشف مفاجأتها فهذا الأمر متروك للمتلقي ولكن المهم أن نستكمل الخصائص التي تتسم بها أعمال خوليو رامون يبيدي ومنها أن شكل التقنية لقصصة ومنها قصته التي نحن بصددها شكل التقنية قد تأثرت بموجة التجديد التي حدثت بعد الحرب العالمية الثانية والتي شملت كافة الأنماط الأدبية ،كما أنه في قصصه لم يتطرق الى معالجات لمشكلات ما أو طرح حلول وإنما بنى نصوصه القصصية على المغزى الجمالي وتعويم الأسباب التي تُكون جداراً أمام الإنسان أي ضمناً أنه كان ينتمي رغم واقعيته ينتمي ضمنا الى مفاهيم الأدب للأدب وليس الأدب للحياة ، وقد يرى البعض أن هذا المفهوم يتعارض مع مفاهيمه الإنسانية في هذه القصة لكن عند قراءة القصة كاملة سيصل المتلقي الى النتيجة التي ذكرناها . ولابد من الإشارة هنا أن القاص خوليو رامون كان يسعى في (الثلجة الأولى ) الى إدراك هويته الثقافية والمؤشر النصي يشير أيضاً الى تؤليف المشاهد وعدم التوسع المطلق بالشرح أو التوسع بالتفاصيل الجانبية والمحافظة على حدود ما لموجوداته مع إدامة زخمها وأستكمال وظائفها ضمن مجريات النص القصصي مع الإبتعاد عن الفكاهة الساخرة وتعقيد الألفاظ ،
q.poem@yahoo.com