تلظوا بنار الفراق والغربة
بغداد – الصباح الجديد :
جمع أمتعته وقرر العودة إلى ارض الوطن بعد ان أتعبه الانتظار في الغربة التي كان يظن أنها ستكون ارحم عليه من الظروف القاهرة التي جعلته يترك وطنه وأهله، سلام جبار ذو السابعة والعشرين عاماً، امضى ثلاثة أعوام بانتظار الحصول على اذن للبقاء في ألمانيا التي دخلها مع مجموعة من اللاجئين، الا إن صعوبة الإجراءات والمعيشة في « الكم»، التي لم يكن يتوقعها دفعت إلى التفكير بجدية للرجوع، اذ كان حجم المعاناة والمشقة كبيراً بقدر بعد المسافة ما بين بغداد وبرلين.
عشرات الشباب لاقوا مصير « سلام» نفسه، وكان قرار العودة نابعاً من حجم الإحباط وخيبة الأمل التي كانوا يعيشونها على ارض الواقع بعد إن حلموا بأن يكونوا فرسان الغرب الذين خسرتهم أوطانهم ولم تقدر طاقاتهم الا أنهم أيقنوا انهم اهدروا تلك الطاقات مابين رحلة الذهاب والعودة.
عودة ميمونة
شاكر جمعة (42 سنة) قال: عدت قبل عام إلى بغداد، بعدما مللت انتظار سمة الإقامة في المخيم الذي كنت اسكن فيه في قرية توبسمد التابعة لمدينة سندسفال السويدية، وقد امضيت عامين في رحلتي إلى أوروبا، التي كنت أظنها أرض تحقيق أحلامي المنشودة، لافتا إلى انه غادر إلى تركيا مستعملاً جواز سفره العراقي وهناك استعمل جوازاً آخر للسفر إلى أوروبا استعاره من أحد أقاربه المقيم هناك، ووصل إلى ألمانيا التي بقي فيها ستة أشهر، قبل أن يغادر إلى السويد طلباً للجوء.
واضاف: “كان كل شيء مفروضاً عليه الطعام وأسلوب الحياة والمدة التي قضاها في المخيم. كان يشعر أنه في سجن حقيقي، حتى المبالغ التي كانت تدفع له كانت لا تكفي للتنقل أو شراء طعام إضافي، مبينًا انه كان يشعر بفجوة كبيرة بين حياته هناك ووضعه في بلاده وهي فجوة لا يمكن أن يعالجها، خصوصاً أنه لم يتقدم خطوة واحدة بعد عامين من الانتظار، فقرر العودة».
واشار جمعة الى أنه “طوال العام الأول الذي قضاه في مخيم اللاجئين، بعد وصوله إلى السويد، كان يتناول وجبة واحدة في اليوم، لأنه لم يتقبل نوعية الوجبات المقدمة له، وبعد انتقاله إلى مخيم مدينة سندسفال، أخبر المسؤولين أنه سيعمل حلاقاً للمهاجرين داخل المخيم، كي يتمكن من تسديد نفقاته، فسمحوا له شرط عدم العمل خارجه» ، اذ كان حلاقاً ماهراً في بغداد، وكان يملك محلاً معروفاً في المنطقة التي يقطنها، وهذا ما ساعده على ممارسة المهنة داخل المخيم لتأمين بعض المال ليتمكن من تسديد نفقاته وشراء علب السجائر، فضلاً عن تناول وجباته خارج المخيم.
ارض الاحلام
ويقول شهاب محمد 33 عاماً: تركت زوجتي وأولادي في بغداد آملاً في الاجتماع بهم مجدداً في السويد، الا ان طول الانتظار أرهقني وصعوبة العيش في مخيمات اللاجئين اتعبتني مما دفعني للعودة الى الوطن وترك حلمي خلف ظهري بان أتمكن من العيش في السويد وتأمين حياة كريمة لأطفالي في تلك الدولة، منوها إلى أن “بعض العراقيين المهاجرين سردوا قصصاً غير حقيقية، وبعضهم قال إنه مثلي الجنس، ولا يستطيع العيش في العراق بسبب احتمال تعرضه للقتل إذا أعلن مثليته. لذلك، حصل هؤلاء على اللجوء بسرعة، وهم لا يعلمون أنهم لا يستطيعون الزواج لاحقاً من النساء، وعليهم أن يعيشوا حياتهم كمثليين فعليين، وإن لم يكونوا كذلك».
وأوضح محمد ان الكثير من العراقيين الذين كانوا يعتقدون أنهم بمجرد وصولهم إلى أوروبا سيحصلون على وظائف عبر شهاداتهم الجامعية، ويستقرون بسهولة، لا سيما أن القصص التي تصلهم من أقاربهم في هذه الدول تعطيهم صورة مختلفة عن الواقع تماماً.
الشاب جعفر عليوي في نهاية عقده العشرين، ترك وظيفته في الجيش وغادر مع عدد من أصدقائه إلى أوروبا تاركاً وراءه زوجة شابة وطفلاً لم يبصر النور، لكنه عاد بعد ثمانية أشهر إلى العراق مجدداً، لأنه لم يحتمل البعد عن عائلته وعدم رؤية ابنته التي ولدت في أثناء غيابه.
يقول عليوي إن وجود بند يسمح له بالعودة إلى وظيفته في صفوف الجيش إذا أعلن ندمه، مكنه من استعادة وظيفته مرة أخرى والعيش في شكل طبيعي، ويضيف “كنت أظن أنني سأتمكن من جلب عائلتي خلال أشهر قليلة، لكنني حتى الإقامة لم أحصل عليها فشعرت بحنين إلى ابنتي التي انتظرتها بعد أربع سنوات من الزواج وقررت العودة”.
الحياة صعبة
وقال موسى قاسم 39 عاماً إن الحياة أصعب مما نتصور هناك، وما نراه في وسائل الإعلام والأفلام يختلف كثيراً عن الواقع الحقيقي فالصورة الوردية لا وجود لها، والناس في هذه الدول لا يتكلمون مع بعضهم بعضاً بسبب انشغالهم الدائم، ويعملون ساعات طويلة ويصعب على كثير منا الاعتياد على أسلوبهم في العيش.
كما عاش غيث احمد، الشاب الثلاثيني، تجربة مغايرة عن مواطنيه الآخرين. إذ غادر بغداد بفيزا رسمية اشتراها من إحدى السفارات الأوروبية، عن طريق وسيط لديه علاقات جيدة داخل السفارة تسمح له بالمساعدة في منح بعض الأشخاص سمة دخول الاتحاد الأوروبي (الشنغن).
يقول احمد إنه تنقل بين إسبانيا وفرنسا وألمانيا، واستقر في برلين، التي «عشت فيها ستة أشهر، ثم قدمت طلباً للجوء رفضته السلطات، لكوني دخلت بفيزا رسمية. فقررت العودة إلى العراق فوراً من دون نقاش أو استشارة أي محام».
ويضيف «أنفقت مبلغاً كبيراً، وزرت أكثر من خمس دول أوروبية كسائح، وكنت أظن أنني سأحصل على عمل في اختصاصي كطبيب بسهولة، لكنني فشلت. فلم أناقش لأنني لا أريد أن أشعر بالإهانة، التي كنت أراها على وجوه بعضهم من اللاجئين، فقررت العودة».
يملك احمد اليوم مكتبة لبيع الهدايا والقرطاسية في حي الكرادة في بغداد، وهو مشروعه الخاص الذي أنساه اختصاصه وهو لا يتحدث عن تجربته في الهجرة لكثيرين، بل لأصدقائه المقربين فحسب.
احلام بلون الغربة
هؤلاء الشباب عاشوا تجربة هجرة الوطن ولم يندموا على العودة مطلقاً، بل شعروا بالراحة لأنهم اتخذوا قرار الهجرة بسبب عدم معرفتهم بواقع الحياة في تلك الدول، وعادوا وهم مدركون للصعوبات التي يتعرض لها المهاجرون، لاسيما وانهم كانوا يحملون احلاما وردية باتت بلون سواد الغربة التي عاشوا ايامها وهم يتلظون بنار الفراق والغربة.